قد أوهنت جلدي الديار الخالية
خلال فترات حياتنا «نحن وآباؤنا وأجدادنا، وأولادنا وأحفادنا أيضا» نحتفي بأبيات شعرية تناولت قضية عاشوراء الحسين ، نحفظها عن ظهر قلب كما في المصطلح قد لا نعلم قائلها، ولا ندري متى قيلت ومتى نظمت، ومتى ألقيت. والأمثلة على هذا كثيرة، وعديدة، يصعب حصرها، لكنّنا نحتفي بمعانيها، ونقف عند طروحاتها، كونها تعطي التعبير الدقيق عن الحالة التي جرت في كربلاء المقدسة، حتى لو جاءت بالإجمال دون التفصيل.
ولعل هذا الأمر ينطبق على قصيدة «قد أوهنت جلدي الديار الخالية»، التي تعود للشاعر الشيخ محمد علي الأعسم «1154 1233 هـ»، وأكاد أقطع وأجزم بأن عددا كبيرا من عوام الشيعة العرب فضلا عن خطبائهم يحفظون مقاطع عديدة من هذه القصيدة الخالدة، ما يجعلها في صدارة القصائد الحسينية، بل إن بعض أبياتها تعاد وتذكر كل عام، حتى إن بعض الخطباء كما علمت من بعضهم يجد نفسه ملزما «ذاتيا» بأن يورد هذه القصيدة.
وعلى ضوء الاطلاع المتواضع على هذه القصيدة يتضح أن ثمة مواصفات تجعل من هذه القصيدة في صدارة القصائد التي تروى ويتم الترنّم بها في المناسبات الحسينية، رغم التقائها مع باقي القصائد عند محاور كربلاء الحسين ، وأبرزها الشجاعة والمأساة.
لعل أبرز تلك المواصفات أنّها قصيدة مباشرة وواضحة وبلغة سهلة للغاية، يحفظها الكبير والصغير على حد سواء، وهذه ميزة وليست عيبا، فهي قصيدة نظمت قبل أكثر من مائتي عام، وتروى وكأنها نظمت اليوم أو بالأمس القريب وبلغة يفهمها أبناء اليوم، كما فهمها أبناء الأمس، فلا أظن أن واحدا من عوام الناس لا يفهم، ولا يدرك معنى: ”يابنَ النبيّ المصطفى ووصيِّهِ، وأخا الزكيِّ ابنَ البتولِ الزاكية، تبكيكَ عيني لا لأجلِ مثوبة لكنما عيني لأجلِكَ باكية“، وهذا الأمر يجري على كافة أبيات القصيدة.
إن عددا ليس قليلا من أبيات هذه القصيدة باتت تجري على الألسنة مجرى الأمثال، حتى إن هناك مقولة مشهورة تفيد بأن أشهر بيتين، وربما أدق ما نظم في رثاء الإمام الحسين هما: ”أنْسَتْ رزيتُكُم رزايانا التي سلفت وهوّنت الرزايا الآتية، وفجائعُ الأيامِ تبقى مدّة، وتزولُ وهي إلى القيامة ِ باقية“، فالمعنى واضح، والعبارات أوضح في التعبير عن المعنى، وهي عظم فاجعة كربلاء على الإنسانية جمعاء، التي باتت لا تقارن بأي فاجعة أخرى، من قبل ومن بعد، فضلا عن بقاء قصة المأساة، حيث تتجدد عاما بعد عام.
إن هذه القصيدة كما سوف نرى لم تتحدث عن حادثة واحدة من حوادث كربلاء الحسين ، مثل مصيبة الرضيع، أو مأساة شهادة العباس
، ولا ما جرى على علي الأكبر، بل حتى تفاصيل ما جرى على الإمام الحسين نفسه، بل هي قصيدة تناولت المأساة بشكل عام، وهذه أيضا ”ميزة“ ساهمت في شهرة القصيدة، إذ من الممكن أن تلقى في أي يوم، وفي أي مناسبة تتعلق بالإمام الحسين
، منها مناسبات الفواتح، و”العادات“ الأسبوعية، أو في النذور التي تتم بمناسبات معينة، والحديث في هذا الشأن يطول.
وتبعا لكل ذلك، نجد أنّها حاوية لعدد من الموضوعات، التي تم عرضها بشيء من التسلسل التاريخي، من البداية إلى النهاية، بل إلى ما بعد حياتنا الدنيا، سار بموجبها الشاعر، وكأنه يسلسل أحداثا تاريخية بدأت، وتطوّرت، وتفاعل الجميع معها، ويعرض الصورة المستقبلية لما بعد هذا الحدث.
وإذا وقفنا على أبيات هذه القصيدة نجد بأن الشاعر سار وفق منهج أو أسلوب عرض يدمج بين طريقة الأقدمين من شعراء عصور ما قبل الإسلام من الوقوف على الأطلال، ولكن بمفاهيم، وبمعان، وبمعطيات أخرى، تختلف عن أطلال كافة الشعراء العصور التي خلت من قبل، فالشاعر رحمه الله أخذ طريقة الأقدمين ولكن بطريقته، دون أن يتماهى أولئك النفر من الشعراء، ولا مواضيعهم.
فيقول رحمه الله:
قد أوهنت جَلَدي الدّيارُ الخالية *** من أهلها ما للدّيارِ وماليهْ
ومتى سألتُ الدّارَ عن أربابها *** يُعِدُ الصّدى منها سؤالي ثانيه
يقف الشاعر على الأطلال، على الديار الخالية، التي هجرها أهلها بلا أمل للعودة مرة ثانية، ولا دليل على خلائها وفراغها من أهلها سوى أن السائل عن أولئك الأهل لا يجد غير ”صدى“ سؤاله يعود إليه، وأظن والله العالم أن هذه الصورة في وصف الأطلال المهجورة لم يأت بها أحد من الشعراء الجاهليين وغيرهم، إذ وصف شاعرنا المرحوم أثر الأطلال والديار الخالية بالتطرق إلى الصدى أو الكلام العائد، بينما كان المعتاد في الوقوف على الأطلال هو وصف الآثار المادية مثل عمود الخيمة أو الحجر، أو بئر الماء، أو أي أثر آخر، بل وجدنا بعض الشعراء يتحدث عن مخلّفات الأنعام والخيول وما ينفصل عن أجسادها، وآثار حوافرها، فهي تحفّز ذاكرته للأحباب الذين هجرهم أو افترقوا عنه.
لكن الشيخ الأعسم أورد حقيقة أن الديار باقية، لكنّها خالية من أهلها، ليس بها سوى الصدى، وربّما أشار رحمه الله إلى أن منازل أهل البيت كانت منازل مبنية، من الطين أو الحجر وما شابه، وأهلها أهل استقرار، وليست منازل البدو الرحل، والفارق كبير هنا، فالخيمة المهجورة لا تنتج صدى صوتيا، بخلاف البناء «الحجري أو الطيني أو الإسمنتي»، بالتالي فإن سكان المدن يختلفون عن سكان البادية، في جوانب عديدة ومنها الغرض من بنائهم لمنازلهم، فالحضر ينشدون الاستقرار الدائم، مقابل البدو ينشدون الاستقرار المؤقت، لا يتمسكون بالأرض كثيرا، إذا يتم هجرها لمجرد حدوث جفاف مؤقت وتأخر هطول المطر، فشاعرنا يرثي أناسا أهل حضارة واستقرار ومدنية، وليسوا من الرحل الذين لا يعرف لهم مكان ولا وطن.
سمة أخرى للديار الخالية التي يتحدث عنها شاعرنا رحمه الله، التي تجعل من ينظر لها يبكي، بل يئن ويصيح، إذ إن هذه الديار كانت ذات دور اجتماعي كبير وهائل، تتمثل في كونها مأوى للمحتاجين والفقراء ومن لديهم مصائب، عدا أن هذا الدور قد انتهى الآن، لتأخذ دورا آخر، باتت مكانا للنعي والبكاء والأنين والحزن، لفراق الأحبة، والمعنى واضح في هذا الشأن، يوردها بصورة مباشرة وصريحة أيضا بقوله:
كانت غياثاً للمنوب فأصبحت *** لجميعِ أنواعِ النّوائبِ حاويه
ومعالمٌ أضحت مآتمَ لا تَرى *** فيها سوى ناعٍ يجاوِبُ ناعيه
إن هذه الدور والمعالم كانت تمنح السعادة والحضن الدافئ لمن تدور عليه رحى الأيام، ومن يلجأ لها في النوائب، هذه الدور باتت الآن تحوي النوائب شتى، منها أنها صارت موضعا لفئة المكتئبين النعاة والنواعي، فبدلا من أن تكون مبعث سعادة صارت موطنا لكل الأسى والحزن، وهنا البكاء ليس على الأثر والحجر والدمن، بل على الشخوص والمبادئ التي خلت منها الديار.
لفتة أخرى يوردها الشيخ الأعسم فبعد أن يؤكد بأن الديار كانت خالية، لكنّ خلوّها الباعث عن البكاء ليس كاملا، بمعنى أنّها باتت مهجورة موحشة، فهي خلت من السادة والقادة والرؤساء، وبقي فيها من يتحمّل المأساة بعد ذلك، وهم النساء والأطفال والثكالى، ومن شاكلهم، وليس أشد في العناء من أن يتحوّل المكان من كونه ”غياثا للمنوب“ أو المصاب، أو الضعيف، إذا به يتحوّل إلى مصدر جملة من النوائب والأحزان.
وهنا لنا ملاحظتان، يمكن الخروج بهما من هذه الوقفة على الأطلال هما:
الأولى: إن الواقع الظالم، إذا ساد على الوضع العام قد يقضي على المعالم الإيجابية في المجتمع، ويحوّل دورها إلى مجال آخر، قد يختاره الظالم أو المظلوم، فحينما يقتل مثل الإمام الحسين ، فإن الأمة تخسر شخصية ذات أثر إيجابي كبير، فيأتي البديل أما أن يكون مخالفا له بالكامل، فتأتي السلبية، أو يأتي من هو متأثر به أو بفقدانه وغيابه، فتنوبه حالة من الحزن، بل حتى مشروعه الذي هو مصدر العطاء يتحول ليصبح مصدرا للحزن.
والثانية: هي نكتة رائعة نظن أن الشيخ الأعسم أراد الإشارة لها، من طرف خفي، فهو لم يذكر أن المنازل الهاشمية التي خلت من أهلها وسادتها، وتحوّلت إلى مصدر للحزن والأسى أنّها باتت ضعيفة ومحتاجة لمن يغيثها، إذ لم يتطرق إلى ذلك، وكأنه يريد القول بأنّها مبان ومعالم تحوّلت، و”أضحت مآتمَ لا تَرى فيها سوى ناعٍ يجاوِبُ ناعية“، لكنّه في المقابل لم يقل أنّها أصبحت ذليلة وخائرة لا دور لها، فالفارق واضح بين الحزين وبين الخانع والذليل، فهذه الديار بكل تأكيد ليست بحاجة لمن يغيثها، فمن فيها من النواعي والنعاة هم شامخون، رغم أنّهم اختاروا سبيل الحزن والبكاء، ولربما كان النعي والبكاء وسيلة معينة للتعبير عن الاعتراض على الواقع الظالم. ولعلّ الشاعر رحمه الله أراد أن يشير أيضا بأن من ضمن رسالة هذه الديار هي النعي والبكاء على الحسين ، فالبكاء وسيلة نشر مجدية لمقاومة المأساة، وقد تكون بديلا في بعض الأحيان عن المواجهة المباشرة، إذا لم يقدر المظلوم عليها.
بعد هذه العرض المجمل عن تلك المعالم والأطلال الخالية من السادة، يورد الشاعر بعض أسرار وعوامل تلك المأساة بشيء قليل من التفصيل، إذ يقول إن تلك الحالة المؤلمة، وما حصل لتلك الديار ما هو إلّا نتيجة لما حصل على الحسين ، الذي يقول عنه:
وردَ الحسينُ إلى العراقِ وظنّهم
تركوا النِّفاقَ إذا العراق كماهيه
ولقد دعَوهُ للعَنا فأجابهم
ودعاهُمُ لهدى ً فردُّوا داعيه
قسَتِ القلوبُ فلم تَمِلْ لهداية ٍ
تبّا لهاتيكَ القلوب القاسيه
ما ذاقَ طعمَ فراتِهِمْ حَتّى قضى
عطشاً فغُسِّلَ بالدّماء ِ القانيه
ورغم أن هذا المقطع من القصيدة يتألف من بضعة أبيات، لكن جملة من المعاني، يجمعها الشاعر في عبارات قصيرة وواضحة، تعطي تفسيرا للأزمة الاجتماعية التي طالت الديار الخالية التي تحدث عنها الشاعر في البداية، يمكن أن نلحظها ونقف عندها
لكن الملاحظ أن الشاعر ابتدأ بنقطة محورية في ثورة الحسين ، إذ ابتدأ بالحديث عن الفساد الداخلي أو المجتمعي، ولم يتطرق إلى غياب العدالة بشكل عام.
إن الشاعر أراد القول بأنّ حدوث تناقض بين القائد «أي قائد» مع قاعدته الجماهيرية التي يتحرّك من أجلها، يؤدي إلى الكارثة، التي تطال الطرفين، فيستغلّها الطرف المعادي لهما، ويلعب عليها ليحقق أغراضه منها، فالإمام الحسين ، استجاب لدعوة أهالي العراق واستنجادهم به، مع أنّه كان مقتنعا بمبدأ الخروج على الواقع الفاسد، ولم تكن نهضته بناء على مطالبهم ومراسلاتهم فقط، بل أنه منذ اليوم الأول قال عن الحاكم الأموي ”مثلي لا يبايع مثله“، فالمفترض أن تكون الأهداف قد التقت وباتت مشتركة بين الطرفين، هو إصلاح هذا الواقع، لكن الذي حدث أن هؤلاء الذين راسلوا وكاتبوا الإمام الحسين
وبدلا من أن يضعوا يدهم بيد قائدهم صاروا مع الطرف الآخر، وحينما دعاهم لما يصلح حالهم إذا بهم ينقلبون رأسا على عقب، ويتحالفون مع هو عدو لهم جميعا، ويرجحون كفّته في المعركة، ولم يكتفوا بغدرتهم، بل صاروا ضمن من قام بقتل الحسين
وصاروا شركاء في الجريمة، بتخلّيهم عن نصرة الحسين أولا، ومساهمتهم في الحصار عليه ثانيا، وقتله وسفك دمه ثالثا، وسبي عياله وأهل بيته رابعا.
على أنّنا في هذا المجال لا ينبغي أن نأخذ الكلام على إطلاقه بهذه الصورة التي أطلقها الشاعر رحمه الله، ونفعل كما يفعل البعض، ونخرج بمقولة أن الشيعة هم من قتلوا الحسين ، كما يروّج بعض المسلمين المعاصرين، بل أن للقضية عوامل تاريخية، أحالت ذلك الجمع المؤيد إلى الإمام الحسين
إلى موقع الضد، ولا ينبغي الخلط في الأمر والادعاء بأن شيعة الإمام علي عليه الإسلامية غدروا بنجله الحسين
، ذاك لأن الآلاف من المناصرين له والمؤيدين لثورته تمت تخليتهم عن القيام بواجبهم بوسائل القهر والتهجير والقتل التي قام بها والي الكوفة عبيد الله بن زياد بن أبيه، ويمكن الرجوع لكتب التاريخ وتحديدا قصة رسول الإمام الحسين
مسلم بن عقيل، لمعرفة هذه الحقيقة، والتي تؤكدها معطيات ما بعد ثورة الحسين
، إذ ظهر الشيعة فيما بعد وقاوموا وثاروا على الدولة الأموية، واحتلوا جزءا منها بعد ثورة المختار الثقفي.
إن الشاعر حينما قال العراق «ولم يقل شيعة العراق»، هو بالتأكيد لا يقصد العراق بأكمله، ولا يعني بذلك الثلة التي وقفت مع الإمام الحسين مثل الحر بن يزيد الرياحي، ومسلم بن عوسجة، وحبيب بن مظاهر، وغيرهم، وجميعهم من العراق، بل أن غالبية عناصر أنصار الحسين هم من العراق. وبكل تأكيد لا يقصد أولئك النفر التي تم تهجيرها أو سجنها والحيلولة بينها وبين نصرة الإمام الحسين
، مثل المختار الثقفي ومن عمل معه بعد ذلك، أنه يقصد أولئك الذين توّرطوا بقتل الحسين، وشاركوا في تلك الجريمة البشعة، بشتى الطرق والوسائل.
كما لا ينبغي في هذا الصدد أن نخرج بمقولة أخرى يتم الحديث عنها كل عام، وهي أن الإمام الحسين قد خدع وتم التغرير به، وأنّه بهذا المعنى لا يملك من الإدراك السياسي شيئا، بدليل أنّه كان عازما على الخروج قبل أن تأتيه الرسل والمكاتبات العراقية، التي جاءته وهو في مكة المكرمة، بينما أعلن رفضه لبيعة يزيد بن معاوية وهو في المدينة المنورة.
بناء على ذلك، فمن قتل الحسين هو الحاكم «يزيد بن معاوية»، والمنفذ لحكمه هو واليه على الكوفة «عبيد الله بن زياد»، ومن اشترك في القتل هم من ”شيعة آل أبي سفيان“ الذين لم يكن لهم دين، ولم يكونوا يخافون المعاد، وما كانوا أحرارا في دنياهم، كما وصفهم الحسين
يوم عاشوراء. هؤلاء مارسوا ”الغدر، والكذب، والخيانة، والفجور في الخصومة“، والتي لخّصها الشاعر بـ ”النفاق“ إذ ورد في الأثر أن ”آية المنافق أربع: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر“، فالنفاق ظهر في أنّهم دعوا الإمام الحسين لرفع الحيف عنهم، فأجابهم لذلك، لكنّهم انقلبوا على أعقابهم وصاروا في الصف الآخر.
وحين يتحدث الشاعر عن النفاق ويعرض بعض ملامحه، نجده يشير إلى صفة إضافية تدعم سمة النفاق لدى من يبتلي بها، هي ”قسوة القلب“، التي لا تأتي إلا نتيجة الابتعاد عن الله، وما يصاحب ذلك من شتى سمات الفسوق والعصيان، وأبرز معالم قسوة القلب هو عدم الاستجابة للهداية، وعدم التأثر بالموعظة، إذ لا تأتي هذه القسوة إلا بفعل المزيد من ممارسة الخطأ والمعصية ف ”ما جفّت العيون إلّا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب“.
وقسوة القلب هنا لا يقصد به الجرأة والشجاعة والإرادة النافذة، بل يراد به انتكاس القلب وعدم تأثره بالموعظة، فيكون أسير لكل ما هو خاطئ وبعيد عن الله جل شأنه، حيث تتضاءل الحالة الإنسانية لدى هذا الشخص، فيمارس شتى سلوكيات المنافق من الغدر والكذب والفجور في الخصومة.
فالمسألة هنا تتمثل في أن ثمة أزمة في الأخلاق والإيمان أنتجت مواقف معادية، حتى لمن يريد الخير، ومن هو مصدر للإيجابية في المجتمع. بالتالي فإن شيوع حالة التدين في المجتمع ترفض ما يصدر من الطرف المسيطر والمهيمن إذا ما أراد الفساد في المجتمع، فلو كانت تلك الفئات التي حاربت الحسين على مستوى ولو كان قليلا من التدين لكانت مواقفهم تختلف، ولكن كما قال الشاعر: ”قست القلوب فلم تمل لهداية....“، فاجتمعت سمة القسوة مع سمات النفاق الأخرى.
إن شيوع مثل هذه الحالات على الصعيدين الفردي والاجتماعي، أي النفاق بكل مصاديقه، وقسوة القلب بكل تجلّياتها، يتحوّل مثل بيت الحسين إلى مكان للبكاء، لأن سادته باتوا مضرجين كالأضاحي، ويتحوّل جسد الحسين
إلى مرصد السهام والرماح والسيوف، وتتحوّل عائلته «وهم نسل رسول الله ﷺ» إلى سبايا، بالتالي يحق لنا بعد كل ذلك أن نبكي على الحسين
، لأننا نبكي المبادئ التي هي خلاف النفاق والتي منها الصدق، والوفاء، والشجاعة، والكرم... إلخ كما أننا نرثي المأساة التي طالته
وأهل بيته وأصحابه، فنبكي، ونرثي الأجساد المضرجة والمبادئ المنتهكة.
من الواضح أن معاشر الشيعة تبكي الإمام الحسين ، بصورة تبعث على الاستغراب والتساؤل لدى غير الشيعة، بل أن هذا البكاء يعد من الأعمال العبادية المستحبة «وفتاوى علماء ومراجع الشيعة صريحة في هذا الشأن»، ويربطها البعض بمستوى الإيمان والتدين، فمن يملك نظافة قلب وحسن إيمان يبكي لمجرد ذكر سيرة الإمام الحسين
، غض النظر عن الوسيلة، فقد يوردها صاحب صوت جميل، وقد يوردها صاحب صوت قوي وليس جميلا بالضرورة، وقد يوردها نثرا أو شعرا، أو رسما وصورة، فقد تعرض بصورة النعي أو الحداء، فكلّها تبعث على البكاء عند الشيعة بشكل عام، بل هناك روايات تاريخية تؤكد أن أول من بكى الحسين وذكر مصيبته هو النبي الأكرم ﷺ، ثم الإمام علي
، وفاطمة الزهراء
، وذلك قبل وفاته بعقود وسنوات، وما بعد وفاته وجدنا أن الإمام السجاد «علي بن الحسين»
بكى والده طوال عمره، فقد قضى حوالي 40 عاما بعد والده.
لكن السؤال الذي يثيره الكثير من الناس، خصوصا ممن يختلفون مع الشيعة، أو لديهم ملاحظات وتحفظات على طقوس الشيعة هو: إذا كانت الحادثة جرت قبل أكثر من ألف سنة، فلماذا نحن نبكي تلك المأساة بعد هذه الفترة؟
يجيب الشاعر على هذا التساؤل، مبيّنا أن البكاء قد يكون على الجسد المقطع، وعلى الحق المضيّع «على حد تعبير أحد العلماء»، فالجسد الحسيني تعرّض لأبشع أنواع القسوة فقد أوردت كتب التاريخ بأن الحسين قوتل بالسيوف والرماح والسهام والحجارة وبالنار، وقد اجتمعت ”الضربة على الضربة، والطعنة على الطعنة“، ولم يبق مكان في جسده الشريف لم تطله ضربة سيف أو رشقة سهم، أو طعنة رمح، أو رمية حجر، بل أن السهام طالت أعضاء جسمه الداخلية فقد استخرج جزء من قلبه وكبده، هذا فضلا عن حرمانه من الماء والطعام، بالتالي فإن ذكر مثل هذه المصائب تبعث على البكاء والأسى لأي إنسان يملك قلبا وإحساسا وإنسانيا، بعيدا عن كونه مسلما متدينا. إن ما جرى على الحسين
يبعث على البكاء، ولكن هل الباعث هو هذا فقط؟
بالطبع لا، فالحسين ، قيمة معنوية عالية، والتعرض لها يعني التعرّض لتلك القيمة، فمن يبكي الحسين
هو بالضرورة يبكي تلك القيمة، التي اكتسبها
من عدة مصادر أبرزها قربه من الدين، ومصدر التشريع فهو ”ابن النبيّ المصطفى ووصيِّه، وأخو الزكيِّ ابنَ البتولِ الزاكية“، وهذا النسب يعني أنّه على خط الرسول الأكرم ويسير بسيرته وينهج نهجه، ويسعى لتطبيق مبادئه التي جاء بها عن الله جل شأنه، فإذا كان شخص من هذا القبيل ويتم التعامل معه بهذه الصورة، فهذا يعني أن كل المبادئ التي يحملها الحسين هي في موضع الرثاء، ومن يحمل المبدئية لا بد وأن يبكي تلك المبادئ التي انتهكها الجيش والحزب والحكم الأموي، فما بالك بما جرى عليه من تجاسر ليس على المبادئ فقط، بل حتى على الأجساد، بعد استشهادها. هنا البكاء على الحسين
هو بكاء المظلومية وندب العدالة الضائعة ونشدان الكرامة المنتهكة، فضلا عن الجسد الذي تم التمثيل به بصورة غير متصوّرة.
فيكون البكاء على شيئين «الجسد، والمبدأ»، فمن يبكي الجسد لا يلام، ومن يبكي المبدأ هو الخط السوي، لذلك أفتى الفقهاء وعلماء الشيعة، وقبلهم أئمة أهل البيت باستحباب البكاء على الحسين وزيارته،
فالشاعر الأعسم يقول:
يابنَ النبيّ المصطفى ووصيِّهِ
وأخا الزكيِّ ابنَ البتولِ الزاكية
تبكيكَ عيني لا لأجلِ مثوبة ٍ
لكنّما عيني لأجلِكَ باكيه
تبتلُّ منكم كربلا بدمٍ ولا
تبتلُّ منِّي بالدّموعِ الجارية
لقد أراد التأكيد على أن البكاء على الحسين يأتي لأجل المثوبة، وقد يأتي من مصدر آخر وهو الشعور الإنساني بالمظلومية والتعاطف مع هذا الشخص، لذا يشيد بعض المراقبين الأجانب بفكرة البكاء على الحسين
بقولهم إن هؤلاء الشيعة يبكون على شخص طلب الحرية منذ زمن، وقدّم نفسه من أجلها، فهو يستحق التكريم والاحتفاء، فليس بالضرورة أن يبكي الإنسان طلبا للمثوبة ولكن يمكن أن يبكي الإنسان تعاطفا مع هذا الصريع المضمّخ بالدماء.
وكأنّما أراد الشاعر أن يقول بأن البكاء على ما جرى على الإمام الحسين ينطوي على جملة من الفوائد، لعل أهمّها الحصول على الثواب الأخروي، وهذا يعني الجانب المبدئي الذي انتهجه الإمام الحسين
قد يحضر في مثل هذه الظروف، وإن هذا البكاء يعد عملا عباديا يربط الإنسان نفسه بطريق الحق والعدل والإيمان وكل ما هو إيجابي «وهو طريق الله جل شأنه»، فمن يبكي الحسين
فهو في طريق الله، وسوف ينال ثوابه.
ومع كل هذا فهناك جانب آخر يستدعي البكاء، ويبعث على الحزن والأسى، هو ما جرى على هذا الرجل الفذ من ظلم واعتداء وتعرّض، هو بكل تأكيد لا علاقة له بكونه ثائرا على الحكومة، إذ كان بإمكان الجيش الأموي أن يحاصر الحسين ويقضي عليه، أو يدخل معه في معركة فاصلة مبدئية، حسب المتعارف عليه في الحروب في تلك الأزمنة، تبدأ بالمبارزات ثم يشتبك الجيشان وتحدث المعركة، وبعد أن تنتهي لا يتم التعرّض للأجساد والموتى، وحتى السبايا يتم التعاطي معهم بطرائق إنسانية، إلّا أن الذي حصل في كربلاء هو خروج عن المألوف، إذ تم قتل الحسين
، ونهب عياله وأمواله، ورض جسده، واحتزاز الرؤوس، ذلك بعد أن حالوا بينه وبين الماء المتاح لكل مخلوقات الله من البشر والحيوانات.
لذلك قال الشاعر رحمه الله:
أَنْسَتْ رزيتُكُم رزايانا التي
سلفت وهوّنت الرزايا الآتية
وفجائعُ الأيامِ تبقى مدّة ً
وتزولُ وهي إلى القيامةِ باقيه
هنا نقف عند هذين البيتين الأشهر في الشعر الحسيني، وهي أن ما جرى في كربلاء لم يجر من قبل، إذ لم تقتصر المأساة على ما جرى في كربلاء من جور واعتداء، وهناك مواقف تستحق الإشادة، من الأبطال، لكن الذي جرى هو حالة السبي والتعدي على آل رسول الله، هذه المأساة التي تتجدد عاما بعد عام، ولم تتوقف سيل الحزن على تلك المصيبة، ففي كل عام تعاد الذكرى، ويجري البكاء، بل أن كل مصيبة تحدث للإنسان المحب للحسين وآل الحسين يعود بذاكرته إلى كربلاء فتهون عليه مصيبته.
حينما نقول إن ما جرى على الحسين جريمة لا تغتفر، فإننا نعني ما نقول، إذ ليس الذي حصل معركة بين طرفين، فقد ارتكب الجيش الأموي عددا من الجرائم، يوردها الشاعر متسلسلا، وبطريقة مباشرة صريحة، مبديا حزنها على ما جرى
أولها: القتل
لهفي لِرَكبٍ صُرعُوا في كربلا
كانت بِها آجالُهُم مُتدانِيَه
نَصروا ابنَ بنت نبيَّهُم طُوبى لَهُم
نالُوا بنصرتِهِ مَراتِبَ ساميه
قَدْ جاوروه هاهُنا بقبورِهم
وَقُصُورُهُم يومَ الجَزا مُتَحاذِيَه
وثانيها: سبي النساء وأهانتهم، وعدم مراعاة قربهم من رسول الله وهو أعظم مخلوق على الأرض:
وَلقدْ يَعِزُّ عِلى رَسولِ اللهِ أن
تُسبَى نِساهُ إلى يَزيدَ الطاغِيَه
ثالثها: التعامل السلبي مع الأجسام، فبعد تركها على العراء تم التنقل بالرؤوس بغية التشفّي والتشهير
وَيَرَى حُسيناً وَهوَ قُرَّة ُ عَينِه
وَرِجَالَهُ لم تَبْقَ مِنهُم بَاقِيَه
وَجُسومُهُم تَحتَ السَنابِكِ بِالعَرَى
ورؤوسهم فَوقَ الرِمَاحِ العالية
وهل هناك مصيبة ورزيّة تشبه هذه الرزية، أليس من حق الشاعر أن يقول بأنه تنسي الرزايا السابقة واللاحقة.
ولكن ومع كل تلك المأساة، وتلك الظلامة التي طالت آل الرسول فإن عدالة الله هي بالمرصاد، ولذا يقول الشاعر:
وإذْ أَتَتْ بِنتُ النَبِيِّ لِرَبِّهَا
تَشكُو وَلا تَخفَى عَليهِ خَافِيَه
رَبِّ انتَقِم مِمَّنْ أَبَادُوا عِترَتِي
وَسَبَوا عَلى عُجُفِ النِياقِ بَنَاتِيَه
وَاللهُ يَغضَبُ لِلبَتولِ بِدونِ أنْ
تَشكُو فَكيفَ إذَا أَتَتهُ شَاكِيَه
فهنالك الجبّار يأمر هبهباً
ان لا تبقّي من عداها باقيه
والخلاصة إن هذه القصيدة واحدة من القصائد الكثيرة التي تناولت قضية كربلاء، لكنّها لما تملكه من سمات صالحة لأن تروى، وسوف تروى في كل عام.. رحم الله الشيخ الأعسم