البركة التي ضاعت في زحمة الكشخة
نشأنا منذ الصغر في المآتم الحسينية، وأبرز ما ميّز لحظاتنا الطفولية آنذاك هو انتظار استلام ”البركة“ في نهاية المجلس، وأقصاها كيس بلاستيكي مربوط، بداخله فطيرة لبنة أو جبن من المخبز، وعلبة عصير بإحدى النكهات.
كأطفال، كنا ننتظر بلهفة استلام هذا الكيس وكأنه هدية من السماء، جزاءً لبكائنا على الحسين؛ لنتبادل بعدها، نحن البنات من الأقارب، الفطائر أو علب العصير بين بعضنا، كلٌّ حسب ذوقها ومزاجها.
وقبل ذلك، كنا أثناء المجلس نشرب ”الفيمتو“ أو العصير بذلك الكأس المعدني الشائع في ذلك الوقت، وكأنه كأس من فضة بين أيدينا الصغيرة.
كبرنا… وكبر الكيس. وتضاعفت توزيعات البركة شيئًا فشيئًا، حتى بتُّ الآن أميل إلى القول — آسفة — إن التوزيعات البسيطة التي كانت توزعها المجالس الحسينية سابقًا، قد فقدت اليوم معنى ”البركة“، وابتعدت عن قدسية المأتم الحسيني بعدما شابها البذخ، إن لم أقل الإسراف والتبذير، شكلاً ومضمونًا.
ولا أبالغ إن قلت إن بعض الناس قد حوّلوا المأتم الحسيني الذي يشرفون عليه إلى ساحة للاستعراض غير المبرر، بدءًا من صواني التقديم التي تُوزّع فيها مختلف العصائر التي قد تتجاوز سبعة أنواع، ويتبعها القهوة بستة أنواع، والشاي بخمسة، ثم الشوربة والمهلبية بمثلها.
وعلاوة على ذلك، باتت الصواني مزينة بعبارات الرثاء الحسيني المختلفة، مما يعني أنها لن تُستخدم في مناسبات مواليد الأئمة أيضًا، بل هناك مصروف آخر وميزانية ثانية لصواني مناسبات الأفراح.
هذا بخلاف علب المناديل الورقية الخاصة بعاشوراء، والمخطوط عليها عبارات تشجيعية على البكاء، وكأننا لن نبكي ما لم تكن تلك العبارات موجودة!
لقد جعلت المبالغة في توزيعات الطعام الساعة التي نقضيها داخل المأتم وكأنها ساعة للأكل والشرب، لا للاستماع إلى المواعظ والإرشاد، وهذا أشدّ ما يزعج الحضور الذين يرغبون في الإنصات إلى محاضرة الخطيب، خاصة مع تكرار مرور كادر التوزيع الذي يشتت انتباه المستمعين.
ونأتي إلى التوزيعات خارج المآتم، التي كانت تُسمّى ”بركة“، وبكل أسف تحوّلت إلى شكل من أشكال المبالغة والاستعراض الخيالي، حتى صار البعض يتجه إلى تلك المجالس لا لميزة معينة، سوى أن توزيعاتهم كثيرة وكبيرة وتسرّ الناظرين!
توزيعات تُبرز ”شطارة“ أصحاب المحلات التجارية في ابتكار أفكار تستهوي أصحاب المآتم للبروز و”الكشخة“. فمنذ متى نوزع شوكولاتة مكتوبًا عليها ”حيّ على العزاء / عريس كربلاء“؟ أو علب وجبات مربوطة بشريط عليه اسم صاحب المناسبة؟ أليس هذا هدرًا للمال يُوزّع باسم الحسين ؟
وكذلك الأكواب التي توزع وعليها اسم صاحب المناسبة وتُستخدم لشرب الشاي، هل سنحتفظ بها أم سترمى؟ علاوة على الأكياس الورقية والقماشية المزيّنة بعبارات التعزية، وآخر مصيرها إلى صندوق النفايات — أعزكم الله.
لقد تحوّلت بركة المآتم — شكلاً ومضمونًا — إلى مادة تنافسية علنية بين المجالس نفسها، ومن خلفها المحلات التجارية، حتى صارت الغاية هي الذهاب للمأتم الذي يوزّع الأكثر والأغلى من الأطعمة والمقتنيات، لا الأكثر فائدة والأغنى تهذيبًا دينيًا وأخلاقيًا!
وكأن الغاية من الذهاب للمآتم هي تجميع الأطعمة والأدوات المنزلية.
تقول إحدى قريباتي إنها حصلت ذات مرة على لحاف سرير كامل من أحد المآتم، وأخرى حصلت على سلّة ملابس، وثالثة على فرشاة تنظيف حمّام — أعزّ الله القارئ!
فهل هذه التوزيعات تليق بمصاب عاشوراء وأيامه؟
موسم عاشوراء هو فعلًا فرصة للعطاء، والعطاء باسم الحسين لا مثيل له في الأجر والثواب، لكنه العطاء المعقول، الذي يتناسب مع المصاب الأليم.
لنكن كرماء باسم الحسين في رعاية فقير، ولنكن كرماء في المساهمة بمساعدة محتاج؛ فهو يقينًا أعظم ثوابًا من كأس أو كيس مكتوب عليه اسم الحسين، ومنتهاه إلى سلّة المهملات!