سنن الأولين.. في قلب رجلٍ واحد
كيف نؤمن بشخصٍ تفصلنا عنه قرون من الغياب؟ كيف ننتظر بصبرٍ ويقين، شيئًا لم تره أعيننا قط؟ هذه الأسئلة، التي لا بد أنها مرت في بال الكثيرين منا، كانت دائمًا تحضر في أذهان الشباب.
لكن في مجلس الليلة الثامنة لسماحة الشيخ فوزي آل سيف، بدأ هذا الضباب ينقشع. لم يبدأ الشيخ بإجابات فلسفية معقدة، بل بدأ برواية بسيطة وعميقة، رواها الإمام زين العابدين قبل قرون من ولادة الإمام المهدي نفسه. وكأنها حجر أساس، وُضع في بناء العقيدة قبل أن يرتفع البناء.
”في القائم منّا سنن من المرسلين...“
عندما سمعت الرواية، شعرتُ وكأنني أرى خريطة لم أنتبه لها من قبل. طول عمر نوح، ولادة إبراهيم الخفية، غيبة موسى وخوفه، اختلاف الناس حول عيسى، فرج أيوب بعد البلاء، وقيام نبينا محمد بالسيف. لم تكن هذه مجرد قصص متفرقة في تاريخ الأنبياء، بل كانت كلها مسارات إلهية، ودروس تمهيدية للدرس الأخير. كانت كلها سننًا ستجتمع يومًا ما في قلب رجلٍ واحد.
ثم فكرت في طبيعتنا البشرية. نحن دائمًا ما نعترض، أو على الأقل نتساءل. حتى الملائكة، في نقائهم، قالوا: ”أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟“. جاءهم الرد حاسمًا: ”إني أعلم ما لا تعلمون“. وكأن الله يعلّمنا منذ البدء: هناك حكمة في اختياراتي قد لا تدركها عقولكم المحدودة.
وهنا، ألقى الشيخ سؤاله الذي هزّني من الأعماق: إذا كنا نؤمن بمعجزة نوح، وخفاء إبراهيم، وغياب موسى، وابتلاء أيوب، فلماذا نستكثر على الله أن يجمع كل هذه السنن في حجته الأخيرة على خلقه؟ لماذا يصبح الأمر صعب التصديق فقط عندما يجتمع في شخص الإمام المهدي؟
أدركتُ أن اجتماع هذه السنن فيه ليس مدعاة للشك، بل هو آية الإعجاز بحد ذاتها. هو الدليل على أنه ليس ظاهرة طارئة، بل هو خلاصة تاريخ الصبر والمعاناة والانتصار الإلهي.
كنت أظن أن المحاضرة ستبقى في هذا الإطار الفكري، لكنها، ككل ليلة في محرم، لا بد أن تحط رحالها في أرض كربلاء. وهنا، تجلّى المعنى كله في مشهدٍ واحد.
عندما سأل الإمام الحسين ابن أخيه، الفتى القاسم: ”يا بني، كيف ترى الموت؟“. لم يكن السؤال اختبارًا للشجاعة، بل كان سؤالًا عن اليقين. جواب القاسم لم يكن حماسة فتى، بل كان خلاصة قلبٍ تربّى في حجر الإمامة: ”فيك يا عمّ، أحلى من العسل“.
في تلك اللحظة، فهمت كل شيء. الانتظار ليس مجرد تصديق بوجود إمام غائب. الانتظار الحقيقي هو أن تربّي قلبك على هذا النوع من اليقين. أن تصل إلى مرحلة تكون فيها الطاعة، والتضحية في سبيل الحق، ”أحلى من العسل“.
ما فعله القاسم مع الإمام الحاضر الذي يراه، هو ما يُطلب منا أن نفعله في قلوبنا تجاه الإمام الغائب.
ليلة الثامن من المحرم علمتني أن القضية ليست ”متى“ سيظهر، بل ”كيف“ ننتظره نحن. فالإمام لا يبحث عن أعداد، بل عن قلوب تشبه قلب القاسم، ترى أن السير في طريقه، ولو كان ثمنه الموت، هو أحلى من كل عسل الدنيا.