المنبر الحسيني: تجديد الوعي في محراب الحقيقة
في قلب المنبر الحسيني، حيث يلتقي الصوت بالروح، والكلمة بالوجدان، ينبض وعيٌ لا يُقاس بزمن، ولا يُحصى بحدود. المنبر، ذلك المحراب الذي تشرّب دماء كربلاء، ليس مجرد منصة خطابية، بل هو جذوة نورٍ تُضيء دروب التأمل، ومختبرٌ لتجديد الإنسان في أعماقه. إنه مكانٌ تُعاد فيه صياغة الوعي، ليس بضجيج الكلمات، بل بصدق المعاني التي تحمل في طياتها صرخة الحسين : ”ألا ترون أن الحق لا يُعمل به؟“. هذه الصرخة، التي ما زالت تدوي، ليست دعوة للإصلاح الخارجي فحسب، بل لثورة داخلية، تُجدد العقل وتُنقي القلب.
المنبر الحسيني ليس منصة لحكايات تُروى، أو عِبر تُستعاد فحسب، بل هو فضاءٌ يتفاعل فيه الإنسان مع ذاته، مع تاريخه، ومع الحقيقة الأبدية. إنه مدرسةٌ تُعلّم الإنسان كيف يرى، لا بعينيه فقط، بل بقلبه وعقله أيضاً. في هذا الفضاء، يتحول الخطاب الديني من مجرد سردٍ للأحداث إلى دعوةٍ للتأمل في المعاني الكبرى: العدالة، الحرية، التضحية، والإيمان الذي لا ينحني. هنا، يُصبح المنبر منارةً لتجديد الوعي، يُحيي في النفوس شغف البحث عن الحقيقة، ويُشعل في العقول جذوة السؤال.
إن المنبر الحسيني، في جوهره، ليس مجرد منصة للرواية، بل هو مرآةٌ تعكس الإنسان لذاته، تُجبره على مواجهة أسئلته الكبرى: من أنا؟ وما غايتي؟ وكيف أحمل راية الحق في عالمٍ يتزاحم فيه الباطل؟ إنه يدعو إلى إعادة اكتشاف الذات، ليس عبر التمسك بالماضي بشكلٍ جامد، بل عبر إحياء قيمه في سياقاتٍ جديدة، تجمع بين أصالة المعنى وحداثة اللغة.
في زمننا، حيث تتداخل لغة العلم بلغة الروحانيات، يواجه المنبر الحسيني تحديًا عظيمًا: كيف يحافظ على دوره كمنصةٍ للهداية دون أن يقع في فخ التلفيق؟ هناك خطاباتٌ تُحاول أن تُجمّل الجهل بمصطلحاتٍ براقة، فتتحدث عن ”الطاقة الكونية“ أو ”ديناميكيات العقل الباطن“ أو ”قوانين الفيزياء“ وما شابه، بطريقةٍ تُفرغ هذه المفاهيم من معناها العلمي، وتُلبسها رداءً دينيًا لا يليق بها. هذا النوع من الخطاب لا يُجدد الوعي، بل يُربكه، إذ يُحوّل الحقائق العلمية إلى أدواتٍ للترويج لأفكارٍ غامضة، أو لتبرير خرافاتٍ بأسلوبٍ يبدو عصريًا.
العلم الحقيقي، ذلك الذي يقود إلى الحقيقة، ليس عدوًا للمنبر، بل حليفٌ له. إن العقل الذي أمرنا الله بإعماله، والقلب الذي دعانا إلى تنقيته، يتطلبان منا أن ننظر إلى الكون بعينٍ متأملة، نستلهم من قوانينه دقة الخالق، ومن أسراره عظمة الإبداع. المنبر الحسيني، حين يتحدث بلغةٍ تجمع بين الإيمان والعقل، يُصبح جسرًا يربط بين الروح والعلم، بين الوجدان والحقيقة. إنه لا يحتاج إلى استعارة مصطلحاتٍ حديثة لتبرير وجوده، لأن رسالته الأصلية، المستمدة من كربلاء، كفيلةٌ بمخاطبة العقول المتطلعة إلى النور.
إن الخطاب التلفيقي، الذي يُحاول ربط الدين بمفاهيم علمية مشوهة، لا يُضيف إلى المنبر، بل يُنقص منه. فالمنبر، في أصالته، هو دعوةٌ إلى التفكر، إلى السؤال، إلى البحث عن الحقيقة بصدقٍ وشجاعة. إنه لا يحتاج إلى أن يتزين بلغةٍ مستعارة، لأن لغته الأصلية، لغة الحسين ، هي لغة الحق التي لا تحتاج إلى تزييف أو تجميل.
إن تجديد الخطاب الديني والفكري عبر المنبر الحسيني لا يعني التخلي عن التراث، ولا الانبهار بكل جديد، بل يعني إعادة قراءة هذا التراث بعيون العصر، دون أن نفقد روح الأصل. المنبر الحسيني، بما يحمله من قيم الحسين ، هو دعوةٌ للإنسان كي يكون أكثر إنسانية، أكثر وعيًا، وأكثر قربًا من الحق. إنه يُحيي فينا القدرة على مواجهة الظلم، ليس بأيدينا فقط، بل بالفكر الذي يُنير، وبالكلمة التي تُوقظ.
في هذا السياق، يُصبح المنبر منصةً للحوار بين القديم والجديد، بين الروح والعقل، بين الإيمان والعلم. إنه يدعونا إلى أن نكون صادقين مع أنفسنا، أن نرفض الزيف الذي يتستر خلف لغةٍ براقة، وأن نتبنى لغةً تجمع بين عمق الإيمان وصدق العقل. إن الخطاب الذي يُجدد الوعي هو ذلك الذي يُحيي في النفوس شعلة السؤال، ويزرع في العقول بذور التأمل، ويُحرر القلوب من قيود الجهل.
لتجديد الخطاب، ينبغي أن نعود إلى جوهر المنبر: إلى تلك اللحظة في كربلاء حين وقف الحسين ، ليس ليدافع عن سلطةٍ زمنية، بل عن قيمٍ أبدية. هذه القيم — العدل، الحرية، التضحية — هي التي يجب أن تُشكل أساس الخطاب الحسيني اليوم. وهي لا تحتاج إلى لغةٍ مستعارة من مفاهيم العصر، بل إلى لغةٍ صادقة، تنبع من القلب، وتخاطب العقل، وتُلهم الروح.
المنبر الحسيني ليس مجرد خشبةٍ يقف عليها الخطيب، بل هو محرابٌ يُضيء دروب الأجيال. إنه صوت الحقيقة الذي لا يخبو، ونبض الوعي الذي لا يتوقف. في كل كلمةٍ تُلقى منه، تتجدد دعوة الحسين إلى إحياء العدل، وإيقاظ العقل، وتنقية القلب. إن مهمة المنبر اليوم ليست فقط استرجاع الماضي، بل إعادة صياغته في لغةٍ تُناسب العصر، لغةٍ تجمع بين أصالة التراث وعمق التأمل. إنه منارةٌ تدعو الإنسان إلى السمو فوق الملهيات العابرة، إلى البحث عن الحقائق الأبدية للتضحية والغاية، وحمل إرث كربلاء كشعلةٍ حية للهداية.
المنبر الحسيني، في جوهره، هو دعوةٌ لإيقاظ الروح، وتحرير العقل من أغلال الجهل، وتثبيت القلب في السعي نحو الحقيقة. إنه لا يحتاج إلى أن يتزين بثياب الحداثة ليثبت أهميته، لأن رسالته خالدة، وصوته كوني. ما دامت هناك قلوبٌ تتوق إلى العدالة، وعقولٌ تسعى إلى الحقيقة، سيظل المنبر محرابًا يتجدد فيه الوعي، وتُذكَّر فيه الروح الإنسانية بغايتها الإلهية، ويستمر إرث الحسين في إضاءة درب الخلود.