آخر تحديث: 6 / 7 / 2025م - 11:28 ص

أبو الفضل العبّاس (ع) نبراس الإيثار والتضحية والفداء

محمد يوسف آل مال الله *

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: آية 9].

قبل الحديث عن الإيثار، لا بد أن نتعرف على بعض الصفات التي تتقاطع معه في معناها العام المرتبط بالعطاء، لكنّها تختلف في الدقة والسياق؛ الكرم، السخاء، والجود.

يعرّف الكرم على أنّه صفة عامة تشمل الاستعداد الدائم للعطاء، سواء بالمال، أو الطعام، أو الوقت، أو الجهد، دون انتظار مقابل، والكرم صفة شاملة قد تشمل السخاء والجود، لكنّه ليس بالضرورة أن يكون على نطاق كبير.

أمّا السخاء فيعرّف على أنّه الإنفاق والعطاء بسهولة دون تردد أو بُخل، وغالبًا ما يكون في المال تحديدًا، والسخاء هو جانب عملي من الكرم، ويتمثل في التوسّع بالعطاء المالي دون شح.

ويعرّف الجود على أنّه أعلى درجات الكرم، ويعني العطاء مع كثرة ما يُعطى، وجودة ما يُعطى، وأحيانًا دون أن يُطلب منه، والجود أرقى من السخاء والكرم، ويُظهر البذل عن طيب نفس وبغزارة.

أمّا الإيثار فيعرّف على أنّه تفضيل غيرك على نفسك، وتمنحه ما تحتاجه أنت، بدافع الحب والتضحية، والإيثار لا يتعلق فقط بالكثرة، بل بتقديم حاجة الغير على حاجة النفس.

بتعريف آخر فإنّ الإيثار هو المبدأ والممارسة الأخلاقية للعمل على سعادة البشر الآخرين، مما يؤدي إلى رفع مستوى الحياة المادية والروحية على حدٍّ سواء. لذا نجد أنّ التشريع الإسلامي أولى هذا الجانب اهتمامًا كبيرًا ما جعل الأنصار في بداية الهجرة النبوية يتسابقون في الإيثار ويأنسون بهذا العمل وتبعهم على هذا النهج أنصار الإمام الحسين وأهل بيته عليه و يوم عاشوراء.

فمن التعاريف السابقة نجد أنّ الإيثار أعلى درجة من الكرم رغم أنّهما يتضمنان العطاء والجود، إلّا أنّ الإيثار أكثر شمولا وعمومية من الكرم، حيث أن الإيثار لا يعني فقط العطاء، بل يعني تفضيل الغير بالعطاء مع حاجة الفرد لما أعطى، ولكن المؤْثر يرى أنّ غيره أكثر منه حاجة، فيؤثره على نفسه ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: آية 9].

لهذا نجد أنّ أبا الفضل العباس شعر بأنّ الإمام الحسين ونساءه وأطفاله أكثر حاجة منه للماء، فأبت نفسه الكريمة أن يشرب الماء قبلهم رغم أنّه تمكّن من الحصول عليه حين وصل إلى الفرات ليملأ القربة بالماء ويوصله إلى مخيّم الإمام الحسين رغم عطشه وحاجته إلى شرب الماء، حتى أنشد قائلًا:

يا نفس من بعد الحسين هوني.. وبعده لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون.. وتشربين بارد المعين

تالله ما هذا فعال ديني

هذه التضحية وهذا الإيثار نابع من عقيدة صلبة وإيمان راسخ، فعن الإمام الصادق أنّه قال: ”كان عمّي العبّاس بن علي نافذ البصيرة، صُلب الإيمان، جاهد مع أخيه الحسين، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً“.

كيف لا يكون العبّاس كذلك وهو ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بإيثاره للمسكين واليتيم والأسير، يُنزل الله سبحانه وتعالى في حقه وفي حق الزهراء والحسنين قرآنًا يصدح بقراءته عموم المسلمين حتى يومنا هذا. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان: آية 8]. وليس ذلك فقط، بل كان أول المؤثرين عندما بات على فراش الرسول الأعظم ﷺ ليفتديه بروحه.

هذا التشريع الإلهي للإيثار يحمل الكثير من الفوائد للفرد والمجتمع ومنها تزكية النفس ويزيد من التكافل واللُحمة الاجتماعية، ويبعد المجتمع عن عوامل الفرقة والعزلة تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: آية 2]، كما أنّه يحقق الكفاية الاقتصادية والمادية في المجتمع، وكذلك العدل الاجتماعي بين الأفراد ونيل محبة وتقدير واحترام الآخرين، وبه يعم الأمن والاكتفاء المادي للأسر المحتاجة وما أحوجنا هذا اليوم لمثل هذا العمل.

لنا في سيرة الرسول الأكرم ﷺ والأئمة الطاهرين والأنصار والمهاجرين رضوان الله عليهم أسوة حسنة في هذا الجانب وعلينا أن نُفعّل سلوك الإيثار في داخلنا، فهذا الشعور وهذا السلوك يرقى بنا وبمجتمعنا إلى مستوى أعلى من المحبة والألفة، مجتمع متجانس ومتعاون، فالمسلم للمسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.

لنكن يدًا واحدة متعاونين ومن المؤثرين المعطيين وليكن أبا الفضل العباس النموذج والنبراس الذي نحتذي به في هذا الطريق.