آخر تحديث: 6 / 7 / 2025م - 11:28 ص

طفولة في زمن التقنيَّة «الجزء الثَّاني»

هاشم الصاخن *

في الجزء الأوَّل من هذا المقال، حاولنا أن نرسم ملامح الطفولة الحديثة كما نراها اليوم: طفولة محاصَرة بالشَّاشات، ومرتبطة بالتقنيَّة أكثر من ارتباطها بالحياة الواقعيَّة.

لم نكن نهرب من الواقع؛ بل كنَّا نضع إصبعنا على الجُرح، ونقول بصراحة: إنَّ هذا الجيل، على الرَّغم من ذكائه التقني، يخسر شيئًا عزيزًا اسمه: ”براءة التجربة الأولى“.

واليوم، نُكمل ما بدأناه.

لن نعيد طرح المشكلة فقط، وإنَّما سنغوص في النتائج. وما الذي حصل حين غابت الألعاب الواقعيَّة؟

وماذا تغيَّر في الطفل حين أصبح يضحك وحده، ويغضب وحده، ويتعلَّم من شاشة لا ترد عليه؟

ثمَّ كيف أصبح بعض الآباء جزءًا من المشكلة: فإمَّا يتركون أبناءهم للشاشة بدافع ”الرَّاحة“، أو يمنعونهم بشكل مفرط بدافع ”الخوف“.

في هذا الجزء، سنقترب أكثر من التفاصيل، من دون مبالغة ولا تزييف؛ فهدفنا ليس جلد الطفل ولا لوم الأهل؛ بل إضاءة زاوية مظلمة، لعلَّها تفتح بابًا لفهمٍ أعمق، وتوازنٍ أحكم.

اللعب الجماعي في المدرسة.. والعزلة في البيت

من المشاهد التي لفتت انتباهي - ولا تزال تتكرر أمامي - عند نهاية الدَّوام المدرسي في المرحلة الابتدائيَّة: فور أن يُفتح الباب، يخرج الأولاد كأنَّهم خرجوا إلى ساحة حريَّة، لا يتجهون مباشرة إلى سيارات أوليائهم؛ وإنَّما يبقون في فناء المدرسة، يركضون، ويضحكون، ويتبادلون المزاح، ويبتكرون ألعابًا من لا شيء، ويختلقون قوانين عفويَّة للعب جماعي… وكأنَّهم لا يريدون العودة إلى بيوتهم.

الغريب أنَّ هذه الفرحة، وهذا التفاعل العفوي، كله يجري بلا أي جهاز ذكي؛ فلا يوجد هاتف، ولا آيباد، ولا شاشة تشدهم.

فيا ترى، ما الذي يجعل الطفل يُقبل بشغف على اللعب الجماعي في المدرسة؛ لكنَّه يتحوَّل في البيت إلى طفل صامت، منزوي، لا يظهر له صوت إلَّا مع نغمة لعبة إلكترونيَّة أو مقطع يوتيوب؟

هل البيئة المدرسية تخلق جوًّا مشجعًا؟

أم أنَّ بيوتنا باتت أقل احتضانًا للفرح الحقيقي؟

هنا تبدأ الأسئلة، وتتشكَّل الملامح الأولى لمشكلة العزلة الرقميَّة التي يعيشها بعض أطفالنا دون أن ننتبه.

العزلة الرقميَّة.. حين يتكلَّم الطفل مع الشَّاشة أكثر من البشر.

العزلة الرقميَّة هي أن يعيش الطفل في عالمه الخاص خلف الشَّاشة، حاضرًا بجسده وغائبًا بعقله ومشاعره عمَّن حوله.

لا يشارك إخوته في الحديث، ولا ينظر في وجه والديه، ولا يتفاعل مع من يجلس بجانبه… لأنَّ اهتمامه أصبح محصورًا في جهاز ذكي، يلبّي كلَّ ما يريد بضغطة واحدة.

كم من طفلٍ نراه يجلس في المجلس العائلي؛ لكنَّه يضع السماعات في أذنيه، وينشغل بمقطع طويل لا يلتفت خلاله لأحد؟

كم من ولي أمر يقول: ”ابني هادئ لا يزعجني“، بينما لا يعلم أنَّه منغمس في عزلة رقميَّة مرهقة، تراكمت مع الوقت حتَّى سلبت منه عفويَّة الطفولة؟

بل إنَّ بعض الأمهات، حين يأتين بصغيرهن إلى زيارة أو مناسبة، أوَّل ما يقدمنه له هو ”الآيباد“، وكأنَّهن يسلمنه تذكرة خروج من التفاعل الاجتماعي!

والخطر هنا لا يكمن فقط في الوقت المهدر؛ وإنَّما في غياب اللغة والمشاركة والانفعال الحقيق؛

فالطفل إذا لم يتفاعل مع من حوله، سيفقد تدريجيًا مهارات التَّعبير، والنَّظر في العين، وحتَّى القدرة على تكوين صداقات حقيقيَّة.

قد تندهش حين ترى الطفل ينفجر ضحكًا بسبب مشهد كرتوني، ثمَّ تجده لا يضحك أبدًا في جلسة عائليَّة.

يتحمس ويصرخ حين يفوز في اللعبة؛ لكنه لا يُبدي أي تفاعل حين تُقال له: ”أحسنت“ أو ”اشتقنا لك“؛ كلُّ ذلك؛ لأنَّ الشَّاشة أعادت برمجة مشاعره، وعزلته عن واقعه.

موقف الأهل.. بين من يهرب ومن يشدّ

لا يمكن الحديث عن عزلة الطفل الرقميَّة من دون التوقف عند سلوك الأهل؛ فالكثير ممَّا يحدث يبدأ من عندهم، حتَّى وإن لم يشعروا بذلك، وبعض الأمهات والآباء، حين يشتكي الطفل من الملل، لا يبحثون عن طريقة لإشغاله أو التفاعل معه؛ بل يلجؤون مباشرة إلى الحلِّ الأسرع:

”خذ الجوال، وسلِّ نفسك“. وحتَّى في السيارة، لا يتحمل بعض الآباء بكاء الطفل أو حركته، فيقول له بلا تردد: ”شغِّل الآيباد وخلّنا نرتاح شوي“. وبدل أن تكون الرحلة فرصة لحديث خفيف أو لعبة لفظيَّة، تتحوَّل إلى صمت طويل، يُسكت فيه الطفل بالجهاز، ويُسكت فيه ضمير الأهل براحة مؤقتة.

في المقابل، هناك من يُمسك العصا من الطرف الآخر، ويقرر أن يمنع التقنيَّة تمامًا، ويعامل الجهاز كما لو كان خصمًا يجب القضاء عليه؛ فلا جوَّال، ولا شاشة، ولا ألعاب، من دون أن يُوفِّر للطفل بديلًا مشوقًا أو نشاطًا ممتعًا.

وهكذا نقع بين إفراط وتفريط؛ فالأوَّل يمنح الجهاز دون رقابة، والثَّاني يمنعه دون حوار. والنتيجة واحدة: طفل لا يعرف كيف يتعامل مع عالم التقنيَّة، ولا كيف يعيش واقعه بسلاسة.

إنَّ الطفل لا يحتاج إلى جهاز طوال الوقت؛ لكنه أيضًا لا يمكن عزله عن عالمه؛ فهو يحتاج من يُرشده، لا من يُرهبه أو يُفرّط فيه. ويحتاج أبًا يجلس بجانبه ليقول له: ”خلنا نلعب سوا“، أو ”ورني وش قاعد تشوف“، لا أبًا يكتفي بالصراخ أو التوبيخ أو التجاهل.

الأجهزة ليست المشكلة، ولكن المشكلة في غياب الدور التربوي الحقيقي في التعامل معها، والمسؤوليَّة تبدأ من عند الذي سلّمه الجهاز، وغاب، وليس من عند الطفل.

لسنا ضدّ التقنيَّة، ولا نطالب بعزل أطفالنا عن العالم الرقمي؛ بل نُطالب بأن نكون حاضرين معهم، لا غائبين عنهم؛ فالطفل في المدرسة يركض ويضحك؛ لأنَّه يشعر بالحريَّة، ويجد من يُشاركه اللحظة. وأمَّا في البيت، فقد يجد جهازًا باردًا يمنحه صورة متحركة؛ لكنَّه لا يمنحه حنانًا ولا تفاعلًا.

والحل ليس في المنع وحده، ولا في التساهل، ولكن يكمن في البديل الصادق بأن نخرُج معه، ونلعب، ونتحدث، ونقرأ سويًا، ونشجعه على خيال حقيقي لا تفرضه شاشة، وكذلك نضع جدولًا للاستخدام، ونلتزم به نحن قبلهم.

نراقب لنفهم، لا لنتجسس.

ونوجّه لنُربّي، لا لنتحكم.

ربما لا نغيِّر كلَّ شيءٍ في يوم؛ لكن إن بدأنا من أنفسنا، فسيتغير الطفل من تلقاء نفسه… لأنَّه في النهاية يبحث عن عين تراه، وأذن تسمعه، وقلب يشاركه عالمه.

لقراءة الجزء الأوَّل من هذا المقال، اضغط هنا:

https://jehat.net/122661
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
عبدالجليل السادة
3 / 7 / 2025م - 11:28 ص
لماذا يضحك الطفل في المدرسة ويصمت في البيت؟ هذا سؤال مؤلم لكنه مفتاح للفهم الحقيقي.
2
منى عبدالباقي
3 / 7 / 2025م - 1:41 م
هاشم كلامك يعور القلب… ما عاد في بيت فيه ضحك أطفال إلا مع صوت الآيباد. واللي يقهر أكثر إن الأهل يفتخرون إن عيالهم (ما يزعجون)!!
3
أحمد الصفار
3 / 7 / 2025م - 3:09 م
من أجمل ما قرأت عن الطفولة الرقمية. الكاتب لم يسقط في فخ التهويل أو المثالية بل شرح الواقع بلغة إنسانية واعية. “الأجهزة ليست المشكلة” عبارة تلخص الرؤية الناضجة للمقال.
4
فاضل حيدر
3 / 7 / 2025م - 5:24 م
هالكلام مو بس ينقال… لازم يدرس! خاصة فقرة “نراقب لنفهم لا لنتجسس” هذا نوع من التربية المتزنة اللي نحتاج نزرعه من الروضة . الله يوفقك يا أستاذ هاشم.
سيهات