آخر تحديث: 6 / 7 / 2025م - 11:28 ص

السفير القائد

محمد يوسف آل مال الله *

السِفَارَةُ هي بعثة دبلوماسية تبعث بها دولة ما إلى دولة أخرى لتمثيلها والدفاع عن مصالحها ولتسهيل أعمال وشؤون مواطنيها المقيمين في الدولة المضيفة ويسمى الرجل الأكبر منصبًا سفيرًا، وعادة ما يكون السفير مؤهلًا لتقلّد ذلك المنصب، فهو الواجهة التي تمثّل الجهة الباعثة.

يا ترى ماذا كان يملك سفير الإمام الحسين من مؤهلات حتى يختاره دون غيره؟

لقد اختار الإمام الحسين لسفارتِه ثقتَه وكبيرَ أهلِ بيتِه مسلم بن عقيل ، فاستجاب له عن رِضىً ورغبة، وَزوَّدَهُ برسالة وهي: «مِن الحُسينِ بن عَلي إِلى مَن بلغهُ كتابي هذا مِن أوليائِه وَشيعَتِه بالكوفة: سلامٌ عليكم، أما بعد: فَقَد أتَتْني كُتُبكُم، وفهمتُ ما ذكرتُم مِن مَحبَّتِكم لِقُدومِي عَليكم، وأنا بَاعثٌ إِليكم بِأخي وابنِ عَمِّي وثِقتي من أهلي مسلم بن عقيل، لِيعلمَ لِي كُنْهَ أمْرِكُم، ويكتبَ إِليَّ بما يَتبَيَّن له من اجتماعِكُم، فإن كان أمرُكم على ما أتَتْني بِه كُتُبُكم، وأخبَرَتني به رُسُلُكم، أسرعتُ القُدومَ إليكُم إِن شَاء اللهُ، وَالسَّلام».

لم يتحدّث الإمام الحسين عن سمات وصفات ومهارات مسلم بن عقيل واكتفى بوصفه أخي وابن عمّي وثقتي من أهلي. هذا الوصف من الإمام المعصوم ليس نابعًا عن عاطفة أو عصبية عرقية، بل عن معرفة تامة بكفاءة مسلم ومؤهلاته القيادية وقدراته الإدارية والفنية، فالثقة لا تُعطى، بل تُكتسب وقد نال مسلم ثقة الإمام المعصوم بكل جدارة واقتدار، كما أنّ مسلمًا لم يكن سفيرًا بالمعنى الخاص بالسفارة، بل كان نائبًا للإمام المعصوم ويمثّله كما لو كان هو بذاته الإمام وهذا المقام لا يتأتى لأي شخص مهما بلغ من العلم والمعرفة إلاّ أن يصل المكانة التي تؤهله لذلك المقام ولو لم يكن مسلم أهلًا لذلك لَمَا بعث به الإمام المعصوم نائبًا عنه.

لم تكن مهمة السفير مسلم إدارة شؤون المواطنين فحسب، بل كانت أخذ البيعة منهم والتعهّد بنصرة سيدهم ومولاهم الإمام الحسين كما جاء في كتبهم ورسائلهم التي بعثوا بها إلى الإمام، وهذه المهمة لم تكن سهلة أو بسيطة، بل من أصعب المهام والتي تتطلب الحكمة والفطنة وإدارة راشدة وقيادة بارعة تتجلى من خلالها سمات القائد السامق.

ربّما سائل يسأل: إن كان مسلم يمتلك السمات والصفات القيادية والإدارية، فَلِمَ لم يتمكن مسلم من السيطرة عليهم وأخذ البيعة منهم؟

الجواب: هناك فرق بين أن تمتلك السمات والصفات القيادة وبين السيطرة القاهرة. يقول سبحانه وتعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: آية 256]، ومن هذا المنطلق سار مسلم بقيادته نحو ذلك المجتمع، كما أنّ أهل الكوفة كانوا تحت التهديد والوعيد من قبل عبيدالله بن زياد وجنوده، فجعلهم ينأون بأنفسهم مخافة القتل والتنكيل بهم، ما يُفقد القائد عنصرين أساسيين وهما الأرضية المناسبة والأتباع المخلصين.

القيادة الرشيدة بحاجة إلى أرضية صلبة ومهيأة لمشروع القيادة أو تهيئتها بأيدٍ قوية لأتباع مؤثرين يمتثلون قول القائد ويدفعون عنه الخطر المحدق، لا أن يهربوا ويختبئوا خلف الجدران وبين جلابيب النساء. هكذا كان السواد الأعظم من أهل الكوفة، بل كان العديد منهم عينًا للطاغية ابن زياد، بل ولم يعد أهل الكوفة يثقون ببعضهم البعض، فالطاغية هدّد بتدمير بيوتهم وحرقها عليهم إن نصروا غير سيّده يزيد بن معاوية.

عندما تبحث عن الأسباب التي يفشل بسببها القائد في بطون الكتب والمقالات لن تجد ما ينطبق على مسلم بن عقيل وذلك لأنّ الأسباب التي ذكرها جهابذة الإدارة والقيادة تتحدث عن الممارسات الخاطئة التي يقوم بها القادة والتي لا شأن لها بقيادة مسلم بن عقيل، كعدم قدرة القائد على تنظيم التفاصيل وعدم الاستعداد لتقديم الخدمات وتوقع مردرد للمعرفة دون استغلال تلك المعرفة والخوف من منافسة الأعداء وكذلك الأنانية والنقص في الخيال والإسراف في الشهوات وعدم الوفاء وكل هذه الأسباب بعيدة كل البعد عن شخصية مسلم بن عقيل .

لم يفشل مسلم قائدًا، بل الخيانة ممن وصفوا أنفسهم بالأتباع هم مَنْ أخفقوا في رص صفوفهم وتقديم أنفسهم لحفظ دينهم واتبعوا كل شيطان مريد، يتسابقون إلى رضا الطاغية خوفًا وطمعًا في الدنيا وملذاتها غير آبهين بما يحلّ بهم من ضياع وانكسار لشوكتهم وعزتهم ورأوا السلامة في الخضوع والخنوع فغدوا أذلة خاسئين يتخطفهم الناس من حولهم.

لقد استشهد مسلم بن عقيل بعزة وكرامة وفضح بشهادته مؤامرات الطغاة وأهدافهم الخبيثة وألاعيبهم الماكرة لطمس الدين وإماتة شريعة سيد المرسلين. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: آية 30].

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
حسين الصفار
[ القطيف ]: 2 / 7 / 2025م - 5:07 م
المقال يضيء جوانب قيادية نادرة في شخصية مسلم بن عقيل وهو طرح قل من يقدمه بهذه الطريقة التي تمزج بين التحليل السياسي والبعد الإيماني. لفتني تشبيه السفير بالنائب الكامل عن الإمام وهي مرتبة تظهر أن مسلم لم يكن مجرد موفد بل حامل لواء المشروع الحسيني.
2
سهى عباس
[ سيهات ]: 2 / 7 / 2025م - 10:56 م
صحيح النجاح القيادي مش مرهون فقط بالمؤهلات الشخصية بل بالظروف والبيئة
3
ليلى منصور
[ سنابس ]: 3 / 7 / 2025م - 2:51 م
تعليق بسيط: تمنيت لو تم الحديث عن ردة فعل الإمام الحسين بعد استشهاد مسلم بشكل أكبر لأنه جزء مهم في تقييم موقعه القيادي