الميراث.. عندما يتحول المال إلى وصية قلب
﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: آية 75].
آية كنت أمرّ بها كثيرًا، لكنني لم أتوقف عندها بهذا العمق إلا في الليلة الخامسة من محرم، ونحن نستمع لسماحة الشيخ فوزي آل سيف وهو يتأمل في نظام الميراث في الإسلام، لا كمادة فقهية جافة، بل كقصة إنسانية تبدأ من لحظة الموت، لكنها لا تنتهي عند توزيع المال.
أدركت حينها أن الميراث في الشريعة ليس مسألة أنصبة وأرقام، بل رسالة من الله تحاول أن تعيد توازن ما اختل، وأن تحفظ المجتمع من أن يتحول المال فيه إلى سلطة، أو إلى سبب للفرقة. في المجتمعات الغربية مثلًا، قد تفرض الدولة ضرائب على الإرث تصل إلى 60%، كأن من مات لا يكفيه الرحيل، بل يُنتزع ما تركه لأحبّته تحت عنوان ”ضريبة الورثة“.
أما في الإسلام، فالأمر مختلف. الميراث لا يُنظر إليه كحق للأقوى، بل كأمانة موزعة على أساس العدل والرحمة. لا يُحرم منه القريب لأنه غير نافع، ولا يُفضل فيه أحد بسبب مركزه أو صوته العالي. الكل يُشمل، لأن الهدف ليس فقط توزيع المال، بل إعادة توزيع الروابط.
تأملت في فكرة أن الإرث يشمل الأرحام، وليس الأبناء وحدهم. لم أفهمها قديمًا على نحو عميق، لكني الآن أراها كرسالة تربوية: المال قد يقطع العلاقة، لكن الإسلام يريده أن يُعمقها، أن يكون سببًا في صلة لا قطيعة.
ثم جاءت فكرة الوصية. كم منّا يعتقد أن الموت بعيد، ويترك أموره معلقة؟ الشيخ آل سيف تحدث عنها ببساطة لكنها كانت تطرق القلب. أن تكتب وصيتك، يعني أن تعترف بأنك لست خالدًا، وأنك تحب من بعدك لدرجة أنك لا تريد لهم خصومة أو ضياعًا بسبب تأخيرك.
لكن الوصية الحقيقية ليست فقط ما نكتبه على الورق. هي في ما نتركه من أثر، من سلوك، من حب، من أخلاق. الوصيّ الحقيقي ليس من يقسم المال، بل من يلتزم بالأمانة، من لا يماطل ولا يتحيّز، من يعرف أن الميت لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فكان أمينًا له حتى بعد رحيله.
في نهاية المجلس، استُحضر سماحة الشيخ فوزي قصة ”الحر بن يزيد الرياحي“، ولأول مرة شعرت كم هذه القصة قريبة من موضوع الميراث. الحر لم يترك شيئًا ماديًا، لكنه ترك لنا أعظم إرث: اختياره في لحظة الحقيقة. كم من الناس يعيش عمرًا في الجبهة الخاطئة، ويظن أن التوبة بعيدة؟ الحر اختصر الدرس كله: أن تعود… فقط عندما تصدق.
وخرجتُ من المجلس بفكرة واحدة تكررت في داخلي: لسنا نرث المال فقط. نحن نرث القيم. لا نوصي بأموالنا فقط، بل نوصي بأفعالنا. وما نتركه من أثر نقي، هو أغلى من كل حساب بنكي.
في كل موسم حسيني، نذرف دموعًا على الماضي، لكن الأهم أن نوقظ بها حاضرنا. الحسين لم يرد لنا الحزن فقط، بل أراد أن نُعيد ترتيب أولوياتنا… في ضوء واقعة كربلاء.