آخر تحديث: 1 / 7 / 2025م - 11:06 م

من كيمياء الذات إلى معمار الاستراتيجية

حين يتنفس الكيان من رئتي الإنسان

عبير ناصر السماعيل *

في زاوية مكتبتي الهادئة، حيث تنساب خيوط شمس الظهيرة بين الرفوف، لم أكن أبحث عن كتاب جديد، بل عن بوصلة... تُشير إلى داخلي.

حين التقطتُ كيمياء الذات للدكتور تركي العجيان، لم أدرك أنني على وشك التقاط مرآة كانت مختبئة في جوف صدري، لأواجه نفسي — ربما لأول مرة — بلا أي قناع يحجبني عني.

كل صفحة فيه كانت محفّزًا لتفكيك نفسي:

من يشتهي ويخاف؟ من يطمح ويهرب؟ وأيُّهم ”أنا“ الحقيقية وسط هذا الركام؟

هل أنا الوعي؟ أم الشعور؟ أم التجربة؟ أم الألم؟

الذات... معملها داخلي، وأثرها كوني

ما شدّني في أطروحة الدكتور تركي أنه لم يتعامل مع الذات كمفهوم معنوي مجرّد، بل كمنظومة ديناميكية يمكن فهمها، تفكيكها، بل وإعادة بنائها. كأن الذات ليست شيئًا نولد به، بل شيئًا نصنعه.

يقول: ”إنّ الذات مشروع استراتيجي طويل الأمد.“

وهنا تكشّف لي تشابهٌ لم أكن أراه من قبل:

فكما تبني المؤسسات رؤيتها ورسالتها، تخوض الذات أيضًا رحلتها في تشكيل المعنى، التقييم، المراجعة، والتجدد.

الفلاسفة بين السطور

هذا التأمل الذاتي سرعان ما قادني إلى عمق الفلسفة، فوجدتُ في كلمات ديكارت، نيتشه، ابن سينا، ويونغ أصداء لما أثاره هذا الكتاب من تساؤلات وجودية:

”أنا أفكر، إذًا أنا موجود.“ — ديكارت

”كن من أنت!“ — نيتشه

”النفس تُدرك مرآتها، لا جسدها.“ — ابن سينا

”الظلّ جزء دفين فينا، لكنه حقيقي.“ — يونغ

أما الدكتور تركي، فكأنه يهمس فينا:

”أنا أختار استراتيجيتي... إذًا أنا أخلق نفسي.“

استراتيجيات الذات… ومرايا الشركات

وهنا عدتُ إلى واقعي المهني.

فأنا أعمل في عالم الشركات، حيث التخطيط والتغيير والتقييم أدوات يومية. لكن شيئًا ما تغيّر بعد هذا الكتاب...

بدأت أتساءل:

هل المؤسسة — أيضًا — تمتلك ”ذاتًا“؟

هل لديها ما يشبه الهوى، الصوت الداخلي، الصراعات، والفرص الضائعة؟

وهل تحتاج كما الإنسان... إلى مراجعة، واعتراف، وربما شجاعة لتبدأ من جديد؟

حين أقدّم استشارة اليوم، لا أبدأ ب SWOT. بل أبدأ بسؤال:

”من أنتم؟“

ليس ككيان قانوني، بل ككائن يتنفس، يشعر، يخشى، ويطمح.

وهنا، على هذا الجسر الفكري، تتعانق كيمياء الذات مع هندسة الاستراتيجية.

فكما تحتاج الذات إلى تصالح داخلي، تحتاج الشركات إلى اتساق بين هويتها المعلنة وممارساتها اليومية.

حيث تلتقي الروح بالرؤية

بعد هذا الكتاب، لم أعد أفصل بين الإنسان والمشروع، بين الذات والخطة، بين الشعور والقرار.

كل استراتيجية ناجحة... تبدأ من الداخل.

من سؤال بسيط لكنه عميق: من نريد أن نكون؟

تبدأ الرحلة من كيمياء الذات، وقد لا تنتهي عند معمار الاستراتيجية، بل ربما تبدأ من جديد، كل مرة، حين نختار أن نرى الكيان كروح، لا كهيكل.

وكما قال ابن عربي: ”مكانك هو حيث أنت.“

أضيف: واتجاهك… هو حيث تختار أن تمضي.

فربما لم تكن المؤسسة إلا مرآةً أخرى... لنفس تبحث عن اكتمالها خارج الجسد.

كاتبة ومستشارة استراتيجية، تؤمن أن الوعي هو أول خطوة في بناء أي كيان ناجح، وأن ما لا يُفهم في الذات، لا يُصلح في المؤسسة