آخر تحديث: 28 / 6 / 2025م - 4:19 ص

هل المال يفرّق بين قلبين؟

هاشم الصاخن *

في عصر أصبحت المادة فيه تتحكَّم بكثير من تفاصيل الحياة، لم يعد المال مجرَّد وسيلة للعيش؛ بل تحوَّل - في كثير من البيوت - إلى أداة تهز أركان العلاقات، وتربك المودَّة، وتهدد عشرة زوجيَّة بنيت على حب ووفاق.

كم من قلبين التقيا على ودٍّ صادق، وبنيا بيتًا جميلًا عامرًا بالسَّكينة والرضا، وتشاركا تفاصيل الحياة بحلوها ومرِّها، دون أن يتخيَّل أحدهما أنَّ المال قد يكون يومًا ما سببًا لهزِّ العلاقة أو زعزعة الثقة، سواء في نفقة، أو قرار شراء منزل، أو حتَّى صفقة عابرة!

لم يكن في الحسبان أن تأتي لحظة يقف فيها أحدهما يتساءل: ”أين ذهبت الثقة؟“

هنا تبدأ الحكاية، حين يصبح المال اختبارًا صامتًا؛ لكنه عميق، يقيس وعي الزوجينِ، ويكشف مدى نضجهما وتفاهمهما في إدارة شؤون حياتهما.

حين كانت الخلافات الزوجيَّة تدور حول الأمور اليوميَّة، كنّا نتجاوزها بسهولة. وكان بيننا متسع للحوار، ومساحة للتسامح، ولم تكن الكلمات تُحاسَب، ولا النوايا تُفسَّر.

كنَّا نختلف على موعد زيارة أو ترتيب شأن منزلي، فنعود سريعًا إلى دفء العلاقة. وحتَّى حين نناقش قرارات مصيريَّة، كفكرة الإنجاب من عدمه، كنَّا نجلس بهدوء، ونتخذ القرار بروح التفاهم. مرَّت بنا سنوات، وعقود، وتنوَّعت فيها التحديات، وتعددت المواقف، وواجهنا خلالها ما هو أصعب من المال؛ لكننا كنَّا نملك أدوات الحل: المحبَّة، والتقدير، والثقة.

لكن ما إن دخل المال على الخط، حتَّى تغيَّرت النفوس واختلت الموازين. ولم يعد الخلاف يدور حول الرأي، وإنَّما حول من يملك الحقَّ في القرار.

لم يعد السؤال: ”ما الأفضل لأسرتنا؟“ بل أصبح: ”من الذي يقرر وأين يصرف؟“ صار كلُّ طرف يرى المال من زاوية مختلفة، وصرنا نسمع عن أزواج يخفون أرصدتهم، أو زوجات يُخفين مداخيلهن، في مشهد لم يكن مألوفًا في البدايات. فما الذي تغيَّر؟

أصبح كثير من الأزواج والزوجات يتعاملون مع المال بمنطق الحذر لا الشَّراكة، والسبب ليس دائمًا الطمع أو الخداع؛ بل الخوف… الخوف من أن يُسلب القرار، أو يُساء استخدام المال، أو حتَّى من تكرار تجارب مريرة سابقة. وبعضهم تأثَّر بثقافة مجتمعيَّة جديدة تمجِّد الاستقلال المالي، وتربط الخصوصيَّة بالغموض، والحرص بالإخفاء. ومن هنا بدأت الفجوة تتسع، والثقة تتآكل، حتَّى أصبحت لغة ”كم راتبك؟“ أو ”أين ذهب المبلغ؟“ أسئلة محرجة، تُشعل خلافًا بدل أن تفتح باب تفاهم.

ومن هنا كان لا بد أن نُفرِّق بين الحريَّة المالية المشروعة لكلِّ طرف، وبين تحويل هذه الحرية إلى جدار عازل يُقصي الشريك، ويغذِّي النزعة الفرديَّة داخل العلاقة؛

فالاحتفاظ بالمال حق؛ لكن التعامل معه بروح ”هذا شأني وحدي“ يُفرغ الزواج من مضمونه التشاركي. وحين تطغى لغة الأنا على الحوار المالي، تختفي النصيحة، ويغيب التشاور، وتتحوَّل العلاقة إلى حسابات لا قلب فيها.

المال حين يفقد روحه المشتركة، يتحوَّل من نعمة إلى اختبار صعب. والمشكلة لا تكمن في المال ذاته؛ بل في طريقة التفكير حوله، وفي غياب الشفافيَّة التي كانت في يومٍ من الأيام سيدة الموقف.

لكي لا يصبح المال حاجزًا بين قلبين، نحن بحاجة إلى مراجعة المفهوم من جذوره؛ فالزواج شراكة، والشراكة لا تكتمل من دون وضوح. ويجب أن يعود الحديث عن المال إلى طاولة الحوار، لا طاولة الشك؛ لأنَّ المصارحة لا تعني السيطرة، والشفافيَّة لا تلغي الخصوصية. ويمكن للزوجين أن يتفقا على تنظيم مالي يُراعي احتياجات الأسرة ويحترم خصوصيَّة الطرفين في آنٍ واحد، من دون أن يُخفي أحدهما عن الآخر دخله، أو يُراكم المال بعيدًا عن أعين الشريك بدافع الحذر أو الترقب.

الحل ليس في كشف كلِّ التفاصيل حتَّى آخر هللة؛ بل في بناء مناخ من الثقة يجعل كلاً من الزوجين يشعر بالأمان عند الحديث عن المال، تمامًا كما يشعر بالأمان عند الحديث عن بقية شؤون الحياة. وقد يكون من المناسب أن يتفق الطرفان على نظام مالي مشترك للبيت، ويحتفظ كل منهما بجزء شخصي، مع تفاهم واضح حول الالتزامات والأولويات.

في النهاية، المال لا يُفرّق بين قلبين… لكن غياب الثقة قد يفعل.

فإن أردنا لبيوتنا أن تبقى عامرة، فلا بد أن نحفظ ما بُني على المودة، وألَّا نسمح للمال أن يُسقط عقد المحبَّة.

فلنجعل المال بلا قيمة حقيقيَّة في ميزان العلاقة الزوجيَّة، ما دمنا نحتكم للضوابط الشرعيَّة ونتشارك الحياة بنية الصدق والتكامل.

فلا يصح أن يكون المال هو الشرارة الأولى لمشكلة تتعمق وتتجذر، حتَّى تُفضي إلى خصامٍ أو فُرقة.

فما أسهل الانفصال حين يغيب العقل، وما أشد الندم حين يعود الهدوء ويكتشف الطرفان أنَّهما خسرا ما لا يُعوّض لأجل أوراق تُعدّ وتُصرف.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
علي السالم
[ سيهات ]: 27 / 6 / 2025م - 11:42 ص
للأسف أصبح المال له تأثير كبير على الثقة بين الأزواج
2
سارة المحسن
[ تاروت ]: 27 / 6 / 2025م - 2:54 م
لازم يفهم الزوجين أن المادة وسيلة لتعزيز العلاقة وليس لتفكيكها
سيهات