آخر تحديث: 28 / 6 / 2025م - 4:19 ص

التسامح في المفاهيم: كارثة معرفية

إذا تأملنا في الخطاب الجماهيري، نجد تسامحًا واسعًا في استخدام المفاهيم، بحيث تُمنح معانٍ متشابهة لمفاهيم متباينة. ونقصد بـ ”التسامح المفهومي“ الخلط غير الواعي بين المفاهيم المتباينة، أو استخدام مصطلحات متعددة للإشارة إلى معنى واحد، دون تدقيق لغوي أو معرفي.

وهذا التسامح يُمثل كارثةً معرفيةً، فهو يُضعف من دقة التفكير ويشوّه أسس الفهم. وعندما تتداخل المفاهيم بهذا الشكل، يفقد الفرد القدرة على تمييز المعاني الدقيقة التي يحملها كل مفهوم، مما يؤدي إلى خلل في التفكير والوعي.

المفاهيم في القرآن الكريم

في القرآن الكريم، نجد أن المعاني والمصاديق قد تتعدد لمفهومٍ واحد، إلا أنه لم يرد مطلقًا أن عدّة مفاهيم تحمل نفس المعنى. ففي كل مرة يُذكر فيها مفهومٌ معين، يتم تبيان دلالاته بدقة. فعلى سبيل المثال، ورد ذكر النفس في القرآن الكريم بعدة معانٍ ومصاديق. ففي بعض الأحيان يُقصد بها جزءٌ من الكيان الإنساني، كما في قوله تعالى:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: آية 7 - 8]. وفي موضع آخر يُقصد بها الكيان البشري ككل، كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ [المائدة: آية 32].

كذلك نجد أن القلب والفؤاد قد ذُكرا في القرآن الكريم بمعنين مختلفين؛ يقول تعالى:

﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: آية 10].

ورغم أن الفؤاد يُستخدم أحيانًا كمترادف للقلب، إلا أن ذلك يُعدّ من التسامح في المفاهيم، وهو غير مقبول مطلقاً.

النفس والروح: مثالٌ على التسامح المفهومي

من أبرز الأمثلة على هذا التسامح المفهومي هو الخلط بين النفس والروح، ونحن نسمع بعض المتحدثين يستخدمون أحدهما بمعنى الآخر دون تفريق بينهما، مما يشوّه الفهم الصحيح لهما، والحال أن النفس والروح هما مفهومان مختلفان تمامًا.

فالروح هي من عالم الأمر، كما يؤكد ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: آية 85]، بينما النفس هي من عالم الخلق، كما في قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس: آية 7].

والروح هي طاقةٌ تمنح الإنسان الحياة، وهي لا تفنى ولا تستحدث من العدم. أما النفس، فهي تُمثّل حقيقة الإنسان وجوهر ذاته، وقد تكون سبباً لسعادة الإنسان الأبدية، يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: آية 40 - 41]؛ وقد ذكر الله سبحانه في كتابه أن النفس قد تحظى بالنعيم الأبدي مباشرةً بعد موت الإنسان يقول تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: آية 27 - 30]؛ وهذا تفريقٌ واضحٌ بين النفس والروح، فالنفس تحظى بالنعيم والعقاب بعكس الروح.

بين العقل والتفكير

نسمع كثيراً هذه المقولة: ”عندي عقلٌ أفكر به“، وهنا نجد خلطٌ بين المفاهيم أيضاً، فالعقل شيء، والفكِرُ شيء آخر، وعملية التفكير مفهومٌ مستقلٌ بذاته.

فالتفكير هو عملية ذهنية بحتة يقوم بها المخ، تعتمد على معالجة المعلومات، سواءً كانت مستقبلة مباشرة من البيئة المحيطة أو مستخرجة من الذاكرة. والتفكير عملية تلقائية لا يتوقف الإنسان عن ممارستها، حيث لا تمر لحظة دون تفكير؛ وقد عبّر الفيلسوف ديكارت عن ذلك بعبارته الشهيرة: ”أنا أفكر، إذًا أنا موجود“. ومن خلال عملية التفكير يتبلور فكر الإنسان.

أما العقل، فهو هبةٌ ربانيةٌ ووجودٌ وجداني، يقوم بدور التوجيه لما ينتج عن التفكير. والعقل هو المسؤول عن التمييز بين الصواب والخطأ، بناءً على مكتسبات الإنسان وتجربته، ولذا فإن السلوك الذي يعتبر خطأً في بيئةٍ قد يُعتبر صوابًا في بيئةٍ أخرى.

والعقل أيضًا مسؤول عن وضع القرار، إلا أنه لا يتولى تنفيذه؛ لأن تنفيذ القرار يقع على عاتق القلب الوجداني، الذي يُعد مركز الإرادة لدى الإنسان.

الالتباس في القرارات بين العقل والقلب

هناك خلطٌ كبير في استخدام مفهومي العقل والقلب، خاصة عند مواجهة الإنسان لقرار حاسم. فكثيرًا ما نسمع شخصًا يقول: ”أنا حائر بين عقلي وقلبي“، وكأن القرار العقلاني يصدر عن العقل، والقرار العاطفي يصدر عن القلب. وهذا التصور يحمل خلطًا واضحًا، لأن المسألة في جوهرها ليست بين العقل والقلب، بل بين العقل والنفس.

فالنفس تميل إلى تحقيق رغباتها العاطفية، بينما العقل يُفكر فيما يحقق مصلحة الإنسان على المدى الطويل، أما القلب الوجداني، الذي يمثل مركز الإرادة، فهو الذي يتخذ القرار النهائي بناءً على التجاذبات بين العقل والنفس.

والقلب ذاته يواجه ضغوطًا متعددة؛ فمن جهة، هناك النفس الجامحة التي تتأثر بالهوى، وتزداد قوتها بتدخل الشيطان الرجيم إذا كان في الأمر ميلٌ للرغبات المحظورة. ومن جهة أخرى، هناك تدخلات خارجية قد تدفع لاتخاذ قرار معين، وفي النهاية، يتخذ القلب القرار، سواء كان عقلانيًا، أو عاطفيًا، أو مزيجًا بينهما، بعد نشاط ذهني معقّد يجمع بين تأثير العقل والنفس.

ورغم هذا التمايز نجد أن الخطاب العام، كثيرًا ما يُبسّط هذه العملية وتُستخدم العبارات بشكلٍ تسامحي دون إدراكٍ دقيقٍ لمعانيها، وهذا التسطيح للمفاهيم له آثار وخيمة على مستوى الوعي والإدراك والمعرفة.

الصراع الحقيقي في أعماق الإنسان

الصراع الحقيقي الذي يعيشه الإنسان في أعماقه هو بين العقل والهوى، خاصة حين يكون أمام خيارين: أحدهما يحقق رضا الله تعالى، والآخر ينساق وراء استجابة لإغواء الشيطان الرجيم.

وقد عبّر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن هذا الصراع بكلامٍ بليغ، حيث قال : «العقل صاحب جيش الرحمن، والهوى قائد جيش الشيطان، والنفس متجاذبة بينهما، فأيهما غلب كانت في حيزه» ”ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج: 3، ص: 2038“.

وهذا القول البليغ يصف بدقة حالة النفس البشرية، التي تتأرجح بين منطق العقل المستنير بتعاليم الرحمن، ورغبات الهوى التي يعززها الشيطان الرجيم، وتوضح أهمية الغلبة لأي منهما في توجيه مصير الإنسان.

التفريق بين المفاهيم: ضرورة معرفية

إن الخطر الأكبر في هذا التسامح المفهومي هو تحول هذه المفاهيم المشوّشة إلى ”حقائق“ ثابتة في ذهن الإنسان، إذ يُصبح من الصعب على الشخص الذي نشأ في بيئةٍ تتسامح في المفاهيم أن يراجع قناعاته أو يعيد التفكير في المسلمات التي تأصلت في ذهنه، وكذلك حين يُعتمد هذا الخلط كأساس للتوجيه الديني أو الثقافي أو الأسري. مما يُفقد الإنسان القدرة على فهم المعاني الدقيقة التي يحملها كل مفهوم، ويؤدي إلى بناء وعيٍ مضلّلٍ وقناعاتٍ خاطئةٍ قد يصعب التخلص منها أو مراجعتها.

لذلك، فإن من الضروري أن ندرك أهمية الوضوح في استخدام المفاهيم، وأن نُشجع على إعادة تصنيفها بناءً على خصائصها ودلالاتها الحقيقية، فالوعي بالاختلافات الدقيقة بين المفاهيم ليس مجرد رفاهية ذهنية، بل هو شرطٌ أساسي لبناء معرفة سليمة ووعي حكيم.

خاتمة

وأخيراً فإن التسامح مع المفاهيم ليس مجرد خللٍ في مسألة لغوية، بل هو تواطؤ مع الفوضى الفكرية. فالفكر الصحيح يبدأ بتحديد المفاهيم بدقة وتجنب الخلط بين ما يجب أن يكون مفهوماً مستقلاً وبين ما يمكن أن يتداخل. فكما أن المفاهيم الواضحة تُبنى على أسس دقيقة في القرآن الكريم، فإن الحاجة ملحّة لأن يعيد كلَّ فردٍ النظر في طريقة فهمه واستخدامه للمفاهيم، وعلى الخصوص من لهم خطابٌ جماهيري، وأولئك الذين ينشرون فكراً وثقافةً في الوسط الاجتماعي عبر مختلف الوسائل الممكنة.

وهذه الدعوة ليست مجرد خطوة نحو إصلاحٍ فكري فردي، بل هي وسيلة لبناء وعي جمعي يتيح للمجتمعات تصحيح مساراتها الفكرية والثقافية، لتجنب التشويش الفكري الناتج عن التسامح المفهومي، والوصول إلى ثقافةٍ أصيلةٍ تقوم على وضوح المعاني ودقة الاستخدام.