آخر تحديث: 28 / 6 / 2025م - 4:19 ص

الاقتصاد في صحة الإنسان: السياحة العلاجية كرافد وطني للتنمية المستدامة

عاطف بن علي الأسود *

في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها المملكة العربية السعودية، ومع تسارع وتيرة الاهتمام بجودة الحياة ورعاية الإنسان، تبرز السياحة العلاجية كأحد المسارات الواعدة التي تجمع بين تحسين صحة المواطن وتعزيز الاقتصاد الوطني. لقد أصبح من الضروري النظر إلى العلاج والتأهيل ليس فقط من باب الرعاية الصحية، بل من زاوية الاستثمار الذكي في الإنسان، والاعتماد على الداخل في توفير خدمات علاجية متخصصة تضاهي ما تقدمه الدول الأخرى، بما يحقق الاكتفاء ويحد من الإنفاق الخارجي.

يتوجه سنويًا عدد كبير من المواطنين للعلاج الطبيعي والتأهيلي في دول مثل التشيك وألمانيا، باحثين عن خدمات شاملة تجمع بين البرامج الطبية والإقامة الطويلة. غير أن هذه الرحلات تحمل تكاليف باهظة تشمل السفر، الإقامة، والنفقات الصحية، في حين أن المملكة تمتلك المقومات الكافية لتقديم نفس هذه الخدمات داخل أراضيها. فالمملكة تضم بيئة طبيعية متنوّعة يمكن أن تتحول إلى مواقع استشفائية متميزة، من جبال الطائف وأبها والباحة، إلى ينابيع المياه الحارة في الليث والعيص، وصولًا إلى الشواطئ الساحرة في أملج والعقير. كل هذه المواقع قادرة على استيعاب مشاريع صحية تأهيلية متقدمة، توفر برامج علاجية وإيوائية للفئات التي تحتاج إلى تأهيل مستمر، مثل ذوي الإعاقات والمصابين بأمراض الجهاز الحركي وكبار السن.

إن الدولة، من خلال رؤية 2030، لم تعد فقط مزودًا للخدمة بل أصبحت ممكنًا وشريكًا داعمًا للقطاع الخاص، عبر توفير البيئة التنظيمية والتشريعية المناسبة، وتحفيز الاستثمار في القطاعات الصحية الحيوية. هذا الدعم لا يُقصد به التدخل المباشر، بل يتمثل في تسهيل منح الأراضي الاستثمارية حسب الحاجة في المواقع ذات الجدوى، وتيسير الحصول على التراخيص، وتشجيع التمويل البنكي لمشروعات البنية التحتية العلاجية، وربط هذه المراكز بأنظمة التأمين الصحي، بما يضمن استدامة الخدمة وجدواها الاقتصادية. بالمقابل، يملك القطاع الخاص السعودي من الإمكانات والخبرة ما يجعله قادرًا على بناء مراكز صحية متخصصة تقدم تجربة علاجية شاملة، توظف فيها الكفاءات الوطنية، وتدمج بين الخدمة الصحية والراحة النفسية والجسدية.

وقد أثمرت برامج الابتعاث التي دعمتها الدولة خلال العقود الماضية عن تأهيل آلاف السعوديين في مجالات العلاج الطبيعي، التأهيل الطبي، التمريض، والإدارة الصحية، في أرقى الجامعات العالمية. هؤلاء الأفراد يمثلون طاقة وطنية ضخمة، تنتظر الاستثمار فيها عبر توظيفها في مشاريع تعزز صحتهم المهنية وتدعم اقتصاد الوطن. لا يوجد سبب لبقائهم خارج سوق العمل الصحي المحلي، طالما أن لدينا فرصًا كبيرة لبناء نموذج سعودي متكامل للسياحة العلاجية.

إن الاستثمار في مراكز تأهيلية علاجية داخل المملكة لا يعني فقط خدمة المرضى، بل هو استثمار في البنية الاجتماعية والاقتصادية للبلد. هذه المراكز يمكن أن توفر إقامة صحية طويلة للأفراد، مع برامج علاجية نفسية وجسدية، وخدمات دعم غذائي وتأهيلي، ما يجعلها نقطة جذب للمواطنين والمقيمين على حد سواء، ويحول المملكة إلى مركز إقليمي متقدم في هذا النوع من العلاج.

إن السياحة العلاجية تمثل اليوم فرصة استراتيجية لجعل الاقتصاد في خدمة الإنسان، عبر مشاريع ذات أثر مزدوج: صحي واقتصادي. فحين تكون صحة المواطن جزءًا من خطط التنمية، ويكون الاستثمار موجهًا لرفاهه واستقراره، فإن الوطن كله يستفيد. والمملكة اليوم تملك من الموارد والكفاءات والرؤية ما يؤهلها لتقود هذا المسار بثقة واقتدار، وتبني نموذجًا فريدًا يضع الإنسان في صميم الاقتصاد، ويجعل من الصحة محركًا للتنمية المستدامة.

إن ما تناولته في هذه المقالة لم يكن طرحًا نظريًا ولا أمنيات بعيدة، بل جاء بعد بحث معمق ودراسة للموارد والمقومات الموجودة في وطننا الغالي، التي يمكن الاستفادة منها لتحسين صحة الإنسان ودعم الاقتصاد الوطني في آنٍ واحد. المملكة تمتلك بالفعل الركائز التي تؤهلها لتكون وجهةً رائدة في السياحة العلاجية، بما في ذلك البيئة الطبيعية المناسبة، والكفاءات البشرية المدربة، والبنية التحتية التي تتطور يومًا بعد يوم، إلى جانب الرؤية الوطنية التي تدعم الاستثمار المنتج والمستدام.

كتبت هذه المقالة انطلاقًا من قناعة شخصية ومهنية بأن الاقتصاد في صحة الإنسان هو استثمار استراتيجي لا يقل أهمية عن الطاقة أو التقنية، بل هو الأساس الذي تُبنى عليه جودة الحياة والاستقرار الاجتماعي. والمملكة، بدعم قيادتها، وخبرة أبنائها، وشراكة قطاعاتها، قادرة بإذن الله على أن تحوّل هذا المفهوم إلى نموذج عملي يحتذى به في المنطقة.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
أحمد العلي
[ القطيف ]: 26 / 6 / 2025م - 10:27 م
مقال رائع ... من الضروري أن نستثمر في قدراتنا المحلية بدلا من الاعتماد على الخارج.
2
فاطمة المسكين
[ سيهات ]: 27 / 6 / 2025م - 10:27 ص
حبيت فكرة الاستفادة من البيئة الطبيعية في المملكة. لدينا الكثير من المواقع الجميلة التي يمكن أن تكون مراكز علاجية 5 نجوم
دراسات عليا اقتصاد صحي