إنها كوميديا سوداء
ليست حربا تقليدية بالمعنى الموجود في قواميس الحروب، إنها مجرد «رشقة» من الصواريخ بين دولتين توحدهما العقيدة الإيديولوجية المرتبطة بالخرافة، وتفرقها الهيمنة والمصلحة، وكأنهما في سباق هدفه مَنْ تكن رشقاته أكثر فاعلية من الآخر، وهذا السباق محكوم بلعبة لها قوانينها ومداها الزمني وحدودها التي لا تحيد عنها، ومن يمسك بزمام هذه اللعبة ومن يضع قوانينها ويتحكم في نتائجها هم الذين يتحكمون بالنظام الرأسمالي أصحاب الشركات الكبرى والبنوك المعولمة.
هذه ليست حربا، إنها كوميديا سوداء، تُمثل على خشبة مسرح الشرق الأوسط، وشعوب المنطقة هم المتفرجون الذين يمنحون تذاكر مجانية حتى تكون الفرجة مكتملة الأثر والتأثير. كوميديا سوداء يعاد من خلالها صناعة ممثلين كومبارس، يؤدون أدوارهم على خشبة المسرح ثم يختفون، هذا ما حصل مع الكثير من هؤلاء، رضا شاه بهلوي، الخميني لا حقا، ترامب، صدام حسين، قادة حماس.. ألخ، هذا إذا ما اكتفينا في حدود تاريخ الشرق الأوسط، ناهيك عن الأدوار التي رسمت لبعض رؤساء أمريكا الجنوبية ضمن حدود أدوار الكومبارس.
نحن المتفرجون نتذكر أن ستارة المسرح لا تغلق أبدا، فكلما انتهى عرض مسرحي، أعاد المنظمون العرض مرة أخرى. لكن بوجوه مختلفة وقصة مستلة من حبكة سابقة. في حرب الخليج الأولى قبيل تحرير الكويت أرسل صدام حسين رشقة صواريخ «سكود» على تل أبيب والقدس وكأنه يدرك أن دوره وصل إلى أقصى مداه حتى تصفق له الجماهير، قبل أن يسقط صريعا على خشبة المسرح. الحرس الثوري الإيراني لا يختلف عن صدام في صنيعه على خشبة المسرح، بل كانت أدواره أكثر نجاعة وأثرا، ويكاد أدّى دوره على أكمل وجه، فهل يسقط الآن دوره بعد توقف التراشق الصاروخيّ بين إسرائيل وإيران كما سقط صدام قبله؟!!
هذه ليست حربا يمكن أن تنكشف أمامك بالعين المجردة، تحصي الخسائر وبالتالي ترفع في قوائم مكشوفة للعلن كما هي في الحروب التقليدية. إنها حروب التكنولوجيا والحروب السبرانية وحروب المسيرات والصواريخ الموجهة بدقة عبر الأقمار الصناعية. إنها حروب معلبة ومحكمة الإغلاق ولا يمكن فهم أسرارها إلا بالرجوع إلى «كتالوج» مرفق معها يدلك على الطريقة التي توصلك إلى أسرارها وقانونها. إن الحصول على مثل هذا الكاتلوج لا يمكن توفره بسهولة، لأنه مزروع ضمن كاتالوجات مصممة للتمويه والخداع والمراوغة والكذب، فكثرة المعلومات المتدفقة عن مثل هذه الحروب المعلبة، وكثرة القنوات التي تستضيف محللين استراتيجيين وسياسيين مختصين وعسكريين خبراء تؤدي بالنهاية إلى خداع العقل والمنطق وتكريس منطق الغرائز والانفعالات.
في هذه الحروب لا أحد منتصرا أو مهزوما، إنها تتأرجح حسب كثافة المعلومات وتوفرها على السوشل ميديا، فمؤشر الانتصار أو الهزيمة لا يستقر له قرار ولا يتوقف حتى يظن المتابع أنها لن تنتهي إلى الأبد.
من السهولة بمكان الانجرار وراء العواطف والانفعالات خصوصا إذا كان العدو الصهيوني هو أحد طرفي الصراع، فمنذ 48 ونحن نكرر ونعيد سردية العواطف والانفعالات من خطب وبيانات وقصائد ومقولات في العروبة والتاريخ المجيد والأمة الإسلامية ضد هذا العدو الغاشم حتى غدت مثل هذه السردية تفقد فاعليتها عند الأجيال، وأصبحت مجرد سلوك يفتقد التفكير والعقلانية. مجابهة العدو الصهيوني تبدأ في ظني في فهم سيكولوجية أفراده وطوائفه وتركيبته الاجتماعية والحزبية والسياسية حتى نستطيع مواجهته ليس بالجيوش الجرارة والنظامية فقط، وإنما بتقوية روابط مؤسسات الدولة والأخذ بأسباب القوة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.