النموذج الصحي السعودي
في خضم التحول الوطني الكبير الذي تشهده السعودية في القطاع الصحي، تبرز الحاجة لإعادة التفكير في وجهة البوصلة التي نقيس بها التقدم. فهل يكفي أن نستورد نماذج جاهزة من أنظمة صحية غربية متقدمة؟ أم أن السياق المحلي المختلف - اجتماعيًا وماليًا وتنظيميًا - يفرض علينا أن نُعيد تصميم النموذج من جذوره، لا أن نُقلد قشوره؟
لا أدعو إلى تجاهل تجارب الدول المتقدمة، لكنني أطرح بجدية ضرورة أن نعيد النظر في مصادر إلهامنا. فالدول الفقيرة - أو ذات الموارد المحدودة - التي نجحت في بناء أنظمة صحية فعالة، تستحق أن تُدرس لا من باب الشفقة، بل من باب الفهم العميق لكيفية صناعة الكفاءة من القلة.
خذ مثلًا كوبا، التي رغم الحصار الطويل، طورت أحد أكثر أنظمة الرعاية الصحية الأولية فعالية في العالم، بفضل اعتمادها على الطب الوقائي والتواصل المجتمعي المباشر. أو رواندا، التي خرجت من حرب إبادة، لكنها بنت تأمينًا صحيًا يغطي 90% من السكان بتمويل تشاركي. أو بنغلادش، التي اعتمدت على تدريب نساء من المجتمع المحلي لتقديم رعاية أولية بسيطة وفعالة في القرى.
هذه النماذج، وإن كانت تعمل في بيئات وظروف لا تُقارن بثروتنا، إلا أنها تقدم دروسًا ثمينة في الحوكمة الرشيقة، والكفاءة التشغيلية، وتمكين الكوادر المحلية، وتبسيط سلاسل الخدمة.
في السعودية، نمتلك الرؤية والطموح، وقد بدأنا بالفعل خطوات مهمة في تعزيز دور الرعاية الأولية، وتحديث بنية الخدمات الصحية، وتفعيل التحول الرقمي، وتنويع مصادر التمويل عبر دمج القطاع الخاص. لكن التحديات لا تزال قائمة، وأبرزها لا يتعلق بندرة المال، بل بطريقة استخدامه.
الاحتراق الوظيفي بين الممارسين الصحيين بات واقعًا يجب الاعتراف به، لا لجلد الذات، بل لحماية الاستدامة المهنية. فضعف الحوكمة في بعض مفاصل المنظومة لا ينعكس فقط على الجودة، بل على الكلفة أيضًا. وتضخّم النماذج المستوردة أحيانًا، قد يُربك البنية التشغيلية بدلاً من أن يُنظمها، إذا لم تُكيف بما يتناسب مع واقعنا.
ما نحتاجه اليوم هو شجاعة في إعادة البناء. نموذج صحي سعودي، يستلهم من الجميع لكنه لا يستنسخ أحدًا. يُحسن إدارة موارده، ويمنح الثقة للكوادر الوطنية، ويعتمد على بيانات حقيقية لا على تقارير عرضية، ويربط النجاح بمؤشرات فعليّة لا بانطباعات إعلامية.
التقليل من الهدر لا يعني التنازل عن الجودة. بل أحيانًا، تقليل الموارد يخلق كفاءة أعلى. المهم أن تكون هناك إرادة تنظيمية صلبة، ومرونة تنفيذية ذكية، ومقاييس واضحة للأثر لا للمجهود فقط. فحين نعيد توجيه البوصلة بهذا الوعي، يصبح من الممكن أن نُصدر نموذجًا سعوديًا يُحتذى، بدلاً من استيراد نموذج قد لا يليق بنا مهما كان لامعًا.
وحين ننجح في تقليل الحاجة إلى دخول المستشفى، أكثر من زيادة عدد الأسرة فيه، نكون قد انتقلنا من علاج المرض إلى إدارة الصحة.. ذلك هو الفرق بين النموذج المستورد.. والنموذج المستلهم.