آخر تحديث: 28 / 6 / 2025م - 4:13 ص

الاصطفاء في زمن المتغيرات «3»

ياسين آل خليل

في لحظات الانكسار والضعف، حيث تنكشف هشاشة الإنسان، يظهر وجهٌ آخر للاصطفاء، وجهٌ لا يراه الناس، لكنه حاضر في عين الغيب. فبعض النفوس لا تُصفّى بالنِّعم، بل تُهذَّب بالابتلاء، وفي الصبر الذي لا يراه أحد. في عمق كل ألم معنى، وفي كل انكسار فرصة لانبعاث جديد، مُصاغ على هيئة هي أقرب للنقاء.

كثيرون يفهمون الصبر على أنه قبول بالأمر الواقع. لكن الصبر الحقيقي ليس ذلك، بل هو فعل داخلي مليء بالوعي. هو أن تعرف أن الطريق مُوجع، ومع ذلك تسير. أن تُدرك أن ما فقدته لم يكن ضياعًا، وأن ما بقي لك كافٍ لأن تواصل الحياة بعزّ وسكينة. الصبر لا يعني غياب الحزن، ولا كتمان الألم، بل تهذيبه حتى تتمكن من التعايش معه.

نحن غالبًا نربط الاصطفاء بما يُرى، موهبة، علم، منزلة، لكن الله يصطفي أيضًا في الخفاء، في الفقد، في المرض، في الصمت الطويل الذي لا يسمعه أحد. أولئك الذين يُبتلون، ولا يتغير معدنهم، الذين لا يصرخون اعتراضًا، ولا يشكون تكبرًا، بل يُسلّمون تسليم من يعلم أن وراء المحنة معنى، هم صفوة لا يُعرَفون بالألقاب، بل بالثبات في قلب العاصفة.

الابتلاء لا يطرق باب الإنسان عبثًا، بل يكشف ما بداخله، ويُعيد تشكيله. فبعض الناس يسقط من أول ضربة، وبعضهم ينهض في كل مرة أقوى مما كان. ليس لأنهم أشدّ، بل لأنهم أكثر إيمانا. لم يقاوموا الألم، بل رافقوه حتى تآلفوا معه، وصنعوا منه زادًا داخليًا لا يراه أحد. هؤلاء لم يكونوا أقل حزنًا، لكنهم أكثر فهمًا للحياة والنفس البشرية.

الذين يصبرون، يصبرون لا لأنهم عاجزون، بل لأنهم مؤمنون، هم الصفوة في زمن السقوط السريع. الصبر، حين يكون وعيًا لا ضعفًا، يُصبح عنوانًا لاصطفاء لا يُمنح للجميع. فمن الناس من يملك كل شيء ويفقد نفسه، ومنهم من يفقد الكثير، لكنه يحتفظ بنقائه، بسلامه، بقدرته على الحب والعطاء رغم كل شيء، وهنا يكمن الاصطفاء.

في نهاية المطاف، لا يُقاس الإنسان بما ابتُلِي به، بل بما صار عليه بعد الابتلاء. الاصطفاء في محنة الصبر ليس في أن تمرّ العاصفة، بل في أن تخرج منها وأنت ما زلت نقيًا، لم تترك إنسانيتك خلفك، ولم تُبدّل مبادئك. هؤلاء هم الذين اختارهم الله لا ليُدهشوا العالم، بل ليُدهشوا الملائكة بصبرهم ونقائهم.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
حسن العواني
[ العوامية ]: 21 / 6 / 2025م - 10:05 م
نحن بحاجة إلى تذكير دائم بأن ما نمر به من صعوبات يمكن أن يكون له معنى عميق. شكرا أستاذ ياسين على هذه الكلمات الملهمة.