غدير التّقى
الإنسان كائن يرتقي درجات السمو والرفعة والتقدم على مستوى مدركاته العقلية وتنميتها، وكذلك على مستوى الرقي الروحي وتهذيب النفس من رذائل الأهواء والآفات الأخلاقية، وميدان صناعة الإنسان وصياغة شخصيته وفق القيم النبيلة لا يأتي من فراغ، بل هو عمل مثابر لا يتوقف عند أي محطة بل يسير بوتيرة التقدم والاستمرار والعطاء، فالنفس البشرية أمام مفترق طريق في اعتلائها منصة السمو أو التسافل والسقوط والانحراف، فما يواجهه الفرد من تحديات ومواجهات تمثل محطات اختبار لما يمتلكه من وعي ونضج يبصّره بالاختيار الصائب، وكذلك ما يمتلكه من إرادة تسنده في خط الممانعة عن ارتكاب العيوب والنقائص، وتشد قواه في خط العمل المثابر والطاعة وصنع المعروف لقناعته بأنه يمثّل خط السعادة وتحقيق وإثبات الذات وعلوها.
ولذا فإن معرفة النفس وطبائعها وموارد ضعفها ونقاط قوتها هو أول الطريق نحو معالي الأمور، إذ سيعمل على اكتساب الفضائل والخيرات ويروّض نفسه في ميدان العمل والطاعة، وحينئذ تصقل النفس وتتجلى صورتها الحقيقية بما تحمله في طياتها من جمال الفكر والأخلاق، فالنفس كالجوهرة المكنونة تحتاج إلى صقل بالعمل والتدريب حتى يتجلّى منها قوة الإرادة وصلابتها والنفس الطويل، فدرجات الرقي والكمال الإنساني ميدان عمل مستمر يثمر في كل محطة من محطاته اكتساب شيء من الفضائل والرشد الفكري.
هما نجدان «طريقان» أمام المرء ليسلك أحدهما وكل واحد منهما له قيادته وآلياته، فطريق الخير والطاعة يقوده العقل الواعي والعارف بالله تعالى، ويستعد ليوم الحساب في ضبط خطاه وكلماته ومواقفه قبل أن تصدر منه، ولهذا الفرد آليته على أرض الواقع حيث يسلط الضوء من ضميره الواعي واليقظ، وأما الإنسان الذي يقوده هواه وجهله وغفلته فيتخبّط بين مغريات الحياة، وينفلت عقاله فلا يبالي بما يصدر منه ولا يراعي أنه بعين الله تعالى ويخضع لرقابته.
الخوف من الله تعالى طريق السعادة والرضا وتحمّل الابتلاءات دون أن يحيد عن التمسّك بقطاف الفضائل والأخلاق الحميدة، وهذا ما يحقق الطمأنينة والسكينة الروحية في خضم المشاكل والضغوط الحياتية المختلفة، ومن ظنّ بأن السعادة تتحصّل بالمظاهر المادية فقد وقع في شراك الوهم، حيث أنه يبتلى بالطمع والاغترار بالدنيا ولا تنقطع أمنياته بتحصيل المزيد دون توقف، فهذا طريق السراب الزائف الذي ينزلق بصاحبه إلى وهم إسعاد الذات وإشباع رغباتها بأي نحو كان ليقوده هواه نحو دار الشقاء والخسران.
التّقى والنزاهة النفسية ليس مجرد مظاهر خارجية تخلو من عمق داخلي يعبّر عن الخوف من الله تعالى واستحضار عظمته في القلب، فمجاهدة النفس ومغالبة الشهوات هي عملية ضبط للعقل والنفس ومراقبة الدوافع نحو التصرفات؛ لتكون منسجمة مع خط الإرادة والرضا الإلهي في موقعية فعلها أو تركها، وفي نهاية الأمر فإن الذي يحكم خطوات الإنسان ليس الأماني الفارغة، بل هو العمل المتضافر مع الإرادة القوية في مواجهة المغريات، إذ أن السقوط في مهاوي المعاصي والمحرمات يعبّر عن نفس ضعيفة قد تمزقت أشرعت همتها فتاهت في بحور الظّلمة.