آخر تحديث: 15 / 6 / 2025م - 3:31 ص

لحظة إلهام

رائدة السبع * صحيفة اليوم

أحبُّ أن أنظر إلى الأشياء من حولي لا كما تبدو، بل كما تعني. لا تمر علي فكرة أو مشهد أو تعليق بلا أن أتوقف عنده، أفتّش عن رموزه. ولعلّ الحج، في عمقه الرمزي، ليس مجرد عبادة موسمية، بل خريطة حياة. كل محطة فيه تشبه مرحلة نمر بها، وكل فعل قرار نأخذه. إنه الحياة تُروى بلغة الطقس وتُشرح بلغة القلب.

تبدأ الرحلة بالإحرام، كما يبدأ كل تغيير حقيقي بالنية. ما لم تنوَ، تبقى أسيرًا لفكرتك ولا تمشي إليها. الحياة تحتاج أن تقول لها بوضوح: ”أنا جاهز، وأنا أعلم ما أريد.“ ثم تبدأ الدوران. لكن السؤال هنا ليس هل نحن ندور، بل حول ماذا ندور؟ نطوف يوميًا حول القلق، والطموح، والحب، والذاكرة. لكن الحج يعلّمنا أن البركة ليست في الحركة فقط، بل في مركز الحركة. اجعل مدارك طاهرًا، حتى لا تستنزفك الدوائر الفارغة.

تمشي، تسعى، تعيد الخطوات، لكنك تسعى بمعرفة أن المعنى لا يُنال بالانتظار. وبعد السعي، يُطلب منك أن تخفف من أثقالك، أن تتخلى عن ما يثقل كاهلك. في الحج، حتى الشعر الزائد يُقصّ... فما بالك بوجعك وعلاقاتك المتعبة؟ خفف، لتواصل الرحلة بخفّة.

ثم تصل إلى عرفة، حيث الوقفة ليست جسدية فقط، بل وعي. تقف لتسأل نفسك: من أنا؟ ولماذا أتيت؟ نحتاج وقفات عرفات في حياتنا، لنعيد ترتيب الداخل وسط الضجيج.

بعد الوضوح، لا يأتي القرار فورًا، بل يُطلب منك أن تبيت، تهدأ، وتنضج المعنى. المبيت في مزدلفة يعلمنا أن الوعي يحتاج وقتًا ليترسّب، وأن هضم الفكرة لا يُستعجل.

وأخيرًا تأتي لحظة رمي الجمرات، رمزية مذهلة تعبر عن التطهر. أنت لا تنتقم، بل تتطهّر. ترمي من آذاك، من استقر في داخلك أكثر مما يستحق. تُنزله من كراسي وعيك، تراه على حقيقته، تجلده رمزيًا ثم تمضي، ليس لأنك تكرهه، بل لأنك لا تريد حمله بعد الآن.

ليست هذه مجرد مناسك، بل رحلة في داخلنا؛ رحلة تبدأ بالنية، تتابع بالسعي، تتنفس بالتخفف، ترتوي بالتأمل، وتُستكمل بالمواجهة. من فهم الحج، فهم الحياة. ومن عاشه بصدق، لم يعد كما كان.

ومضة:

من حديث العزيزة إلهام عن حجّها هذا العام، انبثقت هذه الفكرة.. وبدأت الكلمات تتشكّل كما تتشكّل النية في أول المناسك.