آخر تحديث: 14 / 6 / 2025م - 3:15 ص

شهادات بلا أخلاق

عبد الواحد العلوان

أنا دكتور، أنا مهندس، أنا طيار، أنا ضابط، أنا مدير.

في الوقت الذي تتصاعد فيه أرقام الخريجين والخريجات، الحاصلين على أعلى النسب من الجامعات، والفائزين بتخصصات تُعتبر هامة وقوية وتهم المجتمعات وبناء الأوطان، ولها مزايا وظيفية كثيرة وكبيرة..

بلا شك أن الدراسة الأكاديمية قد تعمل عليها كمشروع شخصي أو لربما أسري من دوافع الأبوين دعمًا للأبناء، مثله مثل أي مشروع طمحتَ الخوض في غماره، فهي بلا شك تحتاج الجهد الكبير والاستمرار على التحصيل العلمي الدائم، والنظر والبحث عن مصادر تعلم تناسب تفكيرك وتطلعاتك، سواء كانت مجرد دورات تلتحق بها، أم كورسات مكثفة تمنحك معلومة جديدة، وعلمًا جديدًا يُضاف إلى علمك أكاديميًا..

فالتخصصات الطبية ليست وحدها قد تكون حصدت أعلى النتائج، وأعلى السباقات، فليس كل خريج طبيبًا، وليس كل خريج مهندسًا، وليس كل خريج مديرًا، وليس… وليس… الكثير.

إنما التنافس الحقيقي هو أن تجد رفعة الشأن برفعة الأخلاق، وحسن التعامل، والذكاء الاجتماعي. فكم طبيب حاصل على أعلى الدراسات العلمية، والشهادات الطبية، والتخصصات الدقيقة، ولكنه لا يستطيع بناء علاقة اجتماعية واحدة، ولا يستطيع شراء صندوق طماطم من سوق الخضار، بسبب تلاعب وشطارة وبراعة البائع غير المتعلم، وقد يكون أضحوكة ودمية في ميدان غير ميدانه العلمي أو الوظيفي، ويفتقد لفنون الحديث، واللباقة، والذكاء الاجتماعي، وفنون إدارة الحديث، ويفتقد للكاريزما حضورًا، ويفتقد لكثير من المزايا التي قد لا تُخوله لأن يكون متواجدًا في هرم المجتمع أو يرأس منظمة اجتماعية، على الرغم من تحصيله العلمي العالي، قد يكون صاحب سلوك غير سوي، فهل الشهادة العلمية هي مفتاح لكل الأوساط المجتمعية؟ الجواب حقًا: لا.

جميل أن تجد صاحب شهادة علمية عالية، متميزًا في مجاله وعلومه، ومميزًا كذلك في تخصصه، وبارعًا في وظيفته وعمله، ومتميزًا كذلك بجملة مزايا ينفرد بها عن غيره، بأنه لبق، ومتحدث، وبارع، ورائع، وخلاق، وإنسان، ومحترم، وقد يكون بهذا التميز قد حصل على وسام التميز المجتمعي والوظيفي، وحصل كذلك على فنون العلاقات العامة، والبروتوكول، التي تتوافق مع مهنته، وقد تكون مفتاحًا إضافيًا لحياته المهنية والمجتمعية..

قل وندر

أن تجد شخصيات مكتملة، حسب الدراسات التي نُشرت في كثير من البحوث العلمية والاجتماعية، والتي تحدثت عن العبقرية العلمية، والعلوم، والتحصيل الدراسي الأكاديمي، رجّحت ووصلت إلى أن المهتمين بالدراسة والتحصيل العلمي قلّ وندر أن يكونوا اجتماعيين، ولبقين، ومتميزين، ومتحدثين، ولديهم كاريزما وذكاء اجتماعي يسافرون عبره إلى الكثير من العلاقات الاجتماعية، وأنهم أكثر عُرضة للتمزق النفسي والاكتئاب من غيرهم، وأنهم أكثر عُرضة لفقدان الأمل، واليأس، والإحباط، وأنهم قد يعيشون عزلة اجتماعية.

وقل وندر

أن يكونوا مميزين اجتماعيًا، والدراسات أشارت إلى أن التركيز على الدراسة والتحصيل العلمي، والشغف في هذا المجال وحده لا يؤتي أُكله، ولا يمنح صاحبه سوى شهادة علمية فقط، بينما أن تكون متعلمًا، وصاحب خُلق، وصاحب منطق، وصاحب تجربة، وصاحب كاريزما، فهذه تحتاج إلى دراسات أخرى..

بعضها اجتماعي، وبعضها يهتم بالعلاقات العامة، وبعضها يهتم بالفنون، كفن التحدث، فن الإنصات، فن الاستماع، فن إدارة الحوار، فن جذب المتلقي، فن التسويق لفكرة، فن التسويق لنفسك، فن التعريف بالنفس، فجميع هذه الفنون قد يفتقدها صاحب التحصيل العلمي والدراسي، ولا يهتم بها، لأنه كان مشغولًا حينها في البحث عن مصادر التعليم، والتركيز على طريق ومسار واحد، وهو التعلم الأكاديمي فقط..

الميدان يا حميدان

كثير من العلوم الاجتماعية، مركزها وبيئتها في أوساط المجتمع، وفي أوساط المجالس، وعلوم الرجال تحتاج رجالًا، ومن لا ينزل للميدان ليستسقي منه، قد يفوته عذوبة العلاقات الجميلة، التي تبدأ من وسط المجتمع، وتبدأ بطريقة إلقاء التحية، وكيفية المبادرة بالسلام، وكيفية رسم الابتسامة في استقبال ضيف أو توديع ضيف، وكيفية الحفاظ على الأناقة الظاهرية في اللباس والشكل، والأناقة الشخصية التي تعبر عن فنونك الذاتية في التعبير عن نفسك، وثقتك بنفسك، وعلومك، وشخصيتك، وتسويقك لنفسك، حيث إن الكثير والكثير قد يفتقد لمفاتيح جمة، ومفاتيح رئيسية في بناء العلاقات الاجتماعية، والحفاظ على استمراريتها بنفس النسق، ونفس الوتيرة..

مفارقات على قارعة الطريق

مشاهير في كثير من منصات التواصل الاجتماعي، عُرفوا بالبساطة والبشاشة، وقلة التحصيل العلمي، لم يكونوا متعلمين، وبعضهم لم يتخطَّ المرحلة الابتدائية، وبعضهم عاطل عن العمل، وبعضهم كان مُهددًا بالفشل، وفاشلًا في الواقع الأكاديمي، وكان يتلقى الصفعات والتنمر من قبل معلميه والمجتمع بسبب فشله الأكاديمي، وقلة الإدراك، ونسبة ذكاء متدنية، ونسبة عبقرية متدنية، هم اليوم على قمة الهرم الاجتماعي والعلاقات، ومضرب المثل، وقدوة لكثير من الشباب في جيلهم، وكثير منهم حصد ملايين العلاقات الاجتماعية، وأصبح اليوم رقمًا صعبًا للغاية، تُفرش لهم السجادة الحمراء استقبالًا وتوديعًا، ويجلس في صدر المجلس، وكأنه الحكواتي، والتي تكاد المجالس لا تُفتح إلا وهو من تطأ أقدامه أولًا، وهذه الشخصيات والكاريزما التي حضرت فيهم، رغم ما ذكرناه، ولكنهم بارعون في التسويق عن أنفسهم، وبارعون في التسويق عن ذاتهم، وبارعون في بناء العلاقات الاجتماعية، ولديهم فنون تفوقوا فيها على كثير من أصحاب الشهادات العليا والمناصب العليا، والشخصيات التي حجزت لنفسها مقعدًا اجتماعيًا يومًا ما..

نعم، فشلوا أكاديميًا، وتحصيلهم العلمي ضعيف جدًا، وقد يكون متدنيًا، أو بالأحرى أنه غير موجود، ولكن في المقابل أصبحوا يمتلكون المال، ويعيشون حالة الثراء والثراء الفاحش، وبعضهم انتقل من مرحلة الضيق والعوز المالي في معيشته إلى مرحلة أخرى يتنفس فيها الصعداء، نتيجة نجاحه الباهر في التواصل الاجتماعي والتسويق عن نفسه، وأصبح مُعلِنًا ويتقاضى راتبًا أو مبلغًا مقطوعًا من المال أكبر مما يتقاضاه شريحة الموظف الأكاديمي، الذي نذر نفسه وحياته للعلم، وفشل الكثير من أرباب الشهادات العليا، والتحصيل العلمي الكبير، في وضع بصمة اجتماعية لأنفسهم وشخصياتهم في الخارطة الاجتماعية، فالمقارنة قد تكون متناقضة بعضًا ما، ومجحفة على الطرف الآخر، وقد تكون غير مرضية، ولربما غير عادلة، ولكنها واقعية، والواقع دائمًا أقرب للإثبات والبرهان والدراسة والتقييم.

لذلك، يتوجب على الجميع إخضاع أبنائه من سن مبكرة، والخضوع لدورات وكورسات في أوساط المجتمع، بدءًا من المجالس الأسرية، والمجالس الثقافية والاجتماعية، لتعلم ما يتوجب عليهم تعلمه، ليتحصلوا على الشهادة الاجتماعية، وبناء الثقة الشخصية، والتميز الاجتماعي، كما حصلوا على الشهادة الأكاديمية بتفوق، وهي مفتاح اجتماعي مساوٍ لمفتاح العلوم الأكاديمية..

في المقابلات الوظيفية، لا ينظر الكثير من المختصين للتفوق العلمي فقط، بل يبحثون كثيرًا في الكاريزما والشخصية، والفنون التي ذكرناها سابقًا.