العدالة الصحية في اختبار التحول
مع انقضاء موسم الحج وعودة المنظومة الصحية إلى جدولها الاعتيادي، لا يمكن أن نمر على هذا الموسم دون تأمل عميق في نموذج العدالة الصحية الذي تحقّق فعليًا في خدمة الملايين من الحجاج.
فقد رأينا كيف جُنّدت الموارد لتصل إلى كل محتاج، بغضّ النظر عن جنسيته أو لغته أو حالته المادية.
التحول الصحي الذي تقوده المملكة في إطار رؤية 2030 هو مشروع ضخم يُعيد هيكلة القطاع نحو الكفاءة والاستدامة. لكنّ التحول لا يكتمل دون أن يكون محوره الإنسان، سواء كمستفيد أو كممارس. وهنا تبرز مفاهيم الاستحقاق والعدالة كقيم أساسية لا تقل أهمية عن الأنظمة التقنية أو الهيكلية.
العدالة الصحية لا تعني فقط إتاحة الخدمة، بل تعني تقديمها لمن يستحقها فعلًا، بناءً على الحاجة الطبية لا فقط على القدرة على المطالبة. ومع توسع نماذج التشغيل والتحوّل إلى خدمات مدفوعة ومؤشرات رضا، قد نواجه دون قصد خللًا يجعل الوصول للخدمة أسهل لمن يملك الأدوات، وأصعب على من يملك الحاجة فقط.
في بعض المشاهد اليومية، نلاحظ ازدحامًا في العيادات أو طلبات مفرطة للفحوصات، لا يقابلها بالضرورة احتياج سريري. هذا لا يُعد فشلًا، بل إشارة إلى خلل في ميزان المطالبة مقابل الاستحقاق. الرعاية الصحية ليست منتجًا استهلاكيًا، والطبيب ليس «موظف خدمة»، والمريض ليس ”عميلًا دائمًا على حق“. حين ننزلق لهذا النموذج، نُضعف قدرة النظام على خدمة من هم في أمس الحاجة.
كما أن تضخيم مفهوم «رضا المستفيد»، دون ضوابط ومعايير موضوعية قد يؤدي إلى استنزاف الموارد، وخلق بيئة ضغط على الممارس تُهدد جودة الخدمة واستمراريتها.
موسم الحج يُثبت سنويًا أن العدالة ممكنة، حين تتوافر الحوكمة والشفافية وتوزيع الموارد بعدالة. والدرس الأهم أن الكفاءة لا تعني السرعة فقط، بل القدرة على الوصول لمن يستحق بأقل قدر من الهدر.
نحن بحاجة إلى بيئة تنظيمية تمكّن الطبيب من اتخاذ القرار المناسب دون ضغط إرضائي، وتمنح المستفيد حقه العادل دون مبالغة. بيئة تُبنى بالسياسات، وتُضبط بالحَوْكَمة، وتُراجع باستمرار. ليس الهدف تقليل الخدمة، بل توجيهها الصحيح. فكل خدمة تُعطى في غير مكانها، تُهدر فرصة مستحق آخر.
العدالة الصحية لا تترسخ إلا حين يصبح الاستحقاق هو المعيار، وتُصان الثقة بين المريض والنظام، وتُبنى شراكة حقيقية ترفع من الوعي العام وترشّد الاستخدام.
إن التجربة العادلة التي عايشناها في الحج ليست استثناءً، بل نموذج يحتذى به في التحول.