آخر تحديث: 1 / 6 / 2025م - 12:53 ص

عندما يُلبي القلب..

هبة الحبيب *

﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: آية 27].

إن الحج عبارة عن مدرسة روحية عظيمة للنفس البشرية، فهو ذلك الموسم الذي يتوافد فيه ضيوف الرحمن من كل حدب وصوب، استعدادًا لقصد الله والقرب منه، يتوافدون في مواقيت وأيامٍ معلومة لتأدية الشعائر المباركة، ما بين طهارة الاغتسال، ونفحات الطواف بالبيت العتيق، والسعي بين الصفا والمروة، والارتواء من ماء زمزم، ويقفون وقفة واحدة في ذلك المشهد العظيم الذي يتجلّى في يوم عرفة.

كل ذلك يكون حين يحج الجسد ويؤدي حق الله في تأدية مناسك الحج.

ولكن هل تساءلنا ذات مرة: كيف تكون كل تلك الشعائر إذا حج ولبّى القلب لا الجسد؟!

كل ما نحتاج أن نعلمه قبل تأدية تلك المناسك هو أن رحلة الحقيقة المتجلية في العشق الإلهي، الطالبة للحكمة والنورانية، التي يختص الله بها من يشاء، تبدأ من الداخل.

عندما يحج القلب ترتقي النفس وتتكامل إلى مستويات نورانية من السمو.

فيكون الرضا والقبول هو شعارها، وهي أيضًا في تلك الأيام لا تتذمّر، ولا تقرف، ولا تعترض؛ لأنها تُسلّم نفسها لخالقها مهما حدث، كتسليم الميت على المغتسل، فهي ترى في تسليم نبي الله إبراهيم لله عندما أراد ذبح ابنه قدوةً لها، لما رأت من عوض الله الجميل لنبيه عندما سلّم ذلك التسليم المطلق، ففداه بكبشٍ عظيم من الجنة، مصدقًا بقول الله تعالى: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال: آية 70].

وحينها فقط ترى النفس في الكلام إباحةً للضرورة، وفي الصمت غايةً للتبصّر، فهي منذ أن أحرمت، أحرمت معها جميع جوارحها، ونذرت لله صومًا ليكون لسانها لا يلهج إلا بذكر الله، وقلبها منقطعًا عن ملذات الدنيا، فتحلّق من عالم الملك إلى الملكوت، وتستسقي من ينابيع الحكمة والرجاحة.

وقد ترى في المبيت بمنى موقفًا مهيبًا يستدعي الاتعاظ، ومحاسبة النفس، ومرابطتها قبل الفوات.

ففي ليلة المبيت، البشر كلهم في ذلك الموت الأصغر نائمون بالإحرام، وكأنها أكفان بجانب بعضهم بعضًا متراصّين، ليس بينهم حتى قدر أنملة، ومعظمهم لا يعرفون بعضًا، كما لو كانوا في القبور.

حينها فقط تُدرك بأن الموت قد لا يُمهلك ثانيةً أخرى، فلا بد أن تهذّب نفسك وتعقلها، وأن الحياة ليس فيها متسعٌ كبيرٌ للظلم والجور والكسر، حتى لو كان بكلمة، فهي تكسر الروح وتؤلمها قبل الجسد، حتى لا تكون من الذين قال الله فيهم: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: آية 15].

فعندما يحج القلب، يرى في الاغتسال طهارةً للروح، ونورًا للفؤاد، فتستشعر نورانية طُهر الماء، والذي يغسل معه الران والذنوب والآثام.

ويرى في السعي هروبًا من زخم الحياة إلى الله، تاركًا السعي في ملذّاتها، ويستبدلها بالهرولة في طريق الله، ولهذا فهو لا يلتفت أثناء سعيه إلى الخلف، لكائنٍ من كان.

فإن من سلك ذلك الطريق الوعر، راغبًا أن يجذبه الله إليه، ليرتقي لمرتبة ”مجذوبٍ سالكٍ“ في طريق الله، ستتجلّى حينها رعاية الله الربانية لذلك العبد.

فإذا أردت أن يحج قلبك لا جسدك، فعليك بالتالي:

عندما لا ترى في نفسك الاستعداد الروحي لتهذيبها من كل قواها الطاغية، فلا تحج حتى تُربّيها وتُزكّيها، فيصبح حجّك حينها معنويًا لا جسديًا فقط، وتستقطب نورانية الحج لروحك، حتى لا تكون ممن قال فيهم الإمام زين العابدين : ”ما أكثر الضجيج وما أقل الحجيج، ما حججت إلا أنا وناقتي وابن يقطين“.

فعندما يُلبّي القلب، حينها ستهتدي بنور البصيرة لا البصر، وسيحبّك الله لجمالك بجلالك، وستدرك حينها نعم الله التوفيقية عليك.

حينها فقط ستضمن أن الذي لبّى وأدّى المناسك في رحلة العشق لله هو قلبك لا جسدك.

أخصائي أول عظام في العلاج الفيزيائي