الطبيعة في تاروت شيء من الماضي
الطبيعة هي الروح لكل من يمشي على وجه هذه الأرض، وفي أحضانها ينسج الفلاحون قصص عشقهم لها مع النجوم في الليالي الصيفية الهادئة حين كان كل شيءٍ أنقى وأجمل، ويستسقون من وردها وريحانها سر الحياة، وبين جداول المياه في الحقول يقطفون ثمار أشجارها، ليتمكنوا من مواصلة العيش في تلك الحقبة الزمنية.
يأخذني الحنين إلى الوراء، أيام الطبيعة في بلدتي ”جزيرة تاروت“، إلى زمان أول، عندما كانت مدرستي الابتدائية والمتوسطة وحيدتين في البلدة، ولا أرى جدران سورها إلا عندما أمرّ بين البساتين التي تحيطها النخيل والأشجار، وأنا في طريقي إلى المدرسة، تطربني زقزقة العصافير، ونوح الحمام فوق ذُرَى النخل العالي، وخرير المياه من العيون الفوّارة، فلا أدري: هل أفرح لأن الذكريات جميلة؟ أم أحزن لأن الماضي لن يعود؟
كان مدير المدرسة الابتدائية، المبنية وسط الطبيعة التي تحيطها البساتين الجميلة والمعروفة بـ «الغالي»، هو الأستاذ عبدالعزيز الرزيحان، يرحمه الله، وهو من أهالي دارين، وكان مدير المدرسة المتوسطة المعروفة «مدرسة الهارون» نسبةً إلى مديرها الأستاذ إبراهيم الهارون، يرحمه الله، وهو من أهالي دارين كذلك.
كنا نمشي إلى المدرسة طوال فترة الدراسة ذهابًا وإيابًا في عزّ الشمس صيفًا، وفي عزّ البرد والمطر شتاءً، وكانت أسعد اللحظات في أيام الدراسة هي لما يعطينا الأستاذ طباشير أو أوراقًا، ويقول لك: أوصلها للأستاذ الفلاني في الفصل الثاني، فتدخل ذلك الفصل بشموخ أمام التلاميذ، وتَحسِب نفسك مسؤولًا عن شؤون الطلاب في المدرسة.
عندما أحطّ مسافرًا إلى بلدان الطبيعة والجمال، ينتابني شعور غريب بالانتماء إلى الطبيعة وأهلها في بلدتي، كأنني كنت هناك، أمشي في شوارع ضيقة تفوح منها رائحة الياسمين، أسمع أصوات الباعة تملأ المكان بالحياة، وألمح وجوهًا مبتسمة رغم بساطة العيش، هكذا كانت حياة الناس في أسواق بلدتي جزيرة تاروت في زمن الطبيعة، التي كانت الكرامة والاحترام هما أساس العلاقات بين الناس.
زمان أول كنا نعيش بإمكانيات بسيطة، لكنها كانت حلوة تسودها المحبة والإخلاص، كان الجار بيتًا ثانيًا، وكان الناس سندًا حقيقيًا لبعضهم البعض، وعلاقتنا مع الأهل والأصدقاء والجيران خالية من الكذب والنفاق، وكنا نحترم المعلم ونرى فيه القدوة الحسنة، ونحاول تقليده في كل شيء، ونحترم الجار ونرى فيه الأب. كان زمنًا جميلًا لن يعود، ولن تعود تلك الأيام الجميلة. فأين هي لمة الأحباب والجيران في الفِرجان؟
كان النوم فوق السطوح من أجمل اللحظات في الليالي الهادئة المعتمة قبل وصول الكهرباء، حيث نرى السماء الصافية متزينة بمئات النجوم المتلألئة، فتبدأ حكاية الأم والجدة، ونحن ننظر إلى النجوم نعدّها إن استطعنا، لكن النعاس يغلب علينا، فنخلد إلى النوم، إلى أن توقظنا صيحة الديك من فوق سعف النخل المتدلي على شرفات منزلنا، أو تحرقنا حرارة الشمس الملتهبة في فصل الصيف.
ختامًا: شريط الذكريات يروي قصصًا صامتة في قلوبنا لا تنمحي، وحين يأخذني الحنين إلى الوراء أكتم أنفاسي وأظلّ صامتًا، لا أعرف: هل أبتسم لأن الذكريات جميلة؟ أم أبكي لأن الماضي لن يعود؟ واليوم، أصبحنا أسرى أجهزة ذكية نحملها بين أيدينا، وننظر في شاشاتها كل حين، نحدّق فيها بعيونٍ مرهقة، ونلامسها بأصابع أنهكتها الأزرار في البحث عن شيء ربما لا نعرفه في العالم الافتراضي.