آخر تحديث: 1 / 6 / 2025م - 12:53 ص

الشاعر النموذج.. اعتراضات وتساؤلات

محمد الحرز * صحيفة اليوم

أولا - استدراكا على ما قلته في مقالة الأسبوع الماضي حول التقسيمات التي اقترحتها فيما يخص الشاعر بمشهدنا الثقافي، والتعريفات المصاحبة التي «اخترلت» على قول بعض القراء النظر إلى الشاعر من جهة كونه صوت الجماعة أو صوت الذات فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار السيل الجارف من التعريفات الأخرى التي اعتمدتها أهم المناهج النقدية المختلفة في النظر إلى الشاعر.

وعليه كيف - والكلام للبعض من القراء الأصدقاء الأعزاء - يمكن الاطمئنان إلى زاوية النظر التي انطلقت منها، والركون إلى هذه التقسيمات فيما نرى - كما هو واضح للعيان - أن مشهدنا الثقافي الشعري من السعة والتنوع والاختلاف والعمق بحيث يصعب معه كل تقسيم أو تصنيف يؤطّر داخله كل تعريف للشاعر، حتى لو كان ذلك كما تقول هو مجرد إجراء منهجي؟ علاوة على ذلك: أنك وضعت مفهوم الشاعر من خلال هذا التقسيم في سياقه التاريخي والاجتماعي والثقافي والأدبي وكأنك تستدعي بهذا الوضع صوت الجماعة أو صوت الذات انطلاقا من هذه السياقات، ملغيا من نظرتك حول هذا التقسيم لمفهوم الشاعر البعد الجمالي المرتبط باللغة وبلاغتها.

أعترف أن هذه الاعتراضات النظرية مهمة وجديرة بالتأمل لأنها ترسخ فهم إشكالات الوعي النظري والمنهجي المتعلقة بالدراسات التي تطال مفهوم الشاعر ووعيه وموقعه بطريقة أكثر عمقا وأكثر معرفة وجدية. لكن في ظني مثل هذه الاعتراضات سابقة لأوانها، معها كأنك تضع العربة قبل الحصان، أو كأنك تعلن عن الفائزين بالسباق حتى قبل أن يبدأ السباق. فالخطاطة الأولى أو المقدمات النظرية لا يمكن التعويل عليها في إعطاء نتائج موثوقة، يعتد بها في حقل الدراسات النقدية، من غير إنزالها منزلة التطبيق العملي الواقعي على النصوص والتجارب مع مراعاة ربطها بسياقاتها المختلفة: التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية والأدبية واللغوية، وهذه مهمة ليست من السهولة بمكان، حتى يتم اختزالها في اعتراضات متعجلة لا تنتظر كي تصل إلى خط النهاية، بالخصوص إذا ما كانت عيوننا شاخصة، ونحن نعيد قراءة المشهد، في تتبع مركبات هذا الوعي المتشابك من جهة، وفي تتبع المشهد وتداخله وانفتاحه وتأثره بالمحيط الأدبي والثقافي المجاور له جغرافيا وثقافيا ولغويا من جهة أخرى.

ثانيا - للوهلة الأولى حينما نضع نموذج الشاعر الثالث في علاقة وثيقة بشبكات التواصل الاجتماعي ونسميه أولا شاعرا بلا ذاكرة ثم نستدرك ونسميه ثانيا شاعرا بذاكرة نتّية، فالأمر ليس فيه تناقضا كما حاول بعض الأصدقاء أن يشير إليه. فالذاكرة عندي المرتبطة بالحياة ووثيقة الصلة بها، هي غيرها الذاكرة المرتبطة بالفضاء الافتراضي وشبكات التواصل متعددة الاستعمالات والوسائل. لأن التمييز بينهما سيحيل الثانية على جيل الشباب الذين ولدوا وهم محاطين بتأثيرات هذا الفضاء حتى في أدق التفاصيل الصغيرة في الحياة. لكنّ السؤال هنا الذي ربما يتبادر إلى ذهن القارئ: لماذا تم ربط نموذج الشاعر الذي ينتمي إلى فئة الشباب بالذاكرة وحصره بها دون غيرها من الروابط كالصوت على سبيل المثال كما هو حال النموذجين المتقدمين، أو ربما نقول: نموذج الشاعر التواصلي على اعتبار أن مفهوم التواصل ركيزة أساسية في هذا الفضاء؟

يقول الناقد سعيد بنكراد في لفتة تعبر بعمق في سياق اختيارنا لمفردة الذاكرة «إنه جيل سيتعرف على الحياة في اللوحة أو الشاشة قبل أن يرى تفاصيلها في محيطه. سيتعلم كيف ينتمي إلى الحياة كما تقولها الصور، لا كما تقولها الأشجار وهي تنمو والورود وهي تزهر وتذبل في حدائق المدينة».

لذلك، في ظل غياب الجسد وحواسه وغياب تماسه التام بالحياة الواقعية، فإن الذاكرة تحضر كتعويض وكإدارك للعالم والحياة من حولها باعتبارها مركز استقبال وتخزين الصور وإعادة إنتاجها من جديد، وإذا ما اقتربنا أكثر من ذاكرة الشاعر هنا على وجه الخصوص، فإن ما يقوم بإنجازه من نصوص إبداعية لا ترتكز بالدرجة الأولى على فكرة الكتابة، وإنما ترتكز على فكرة التواصل والفرق بينهما شاسع وكبير هو الفرق بين العالم الواقعي والواقع الافتراضي. لكن نترك الحديث في سرد تلك الفروقات مع أمثلة في مقال آخر.