آخر تحديث: 1 / 6 / 2025م - 12:53 ص

عقدة ”المدير الأجنبي“ بين وهم الكفاءة وحقيقة التهميش

الدكتور جعفر أحمد قيصوم

في أروقة مؤسساتنا تتكرر ظاهرة أصبحت مألوفة إلى حدّ أننا لم نعد نستغربها أو نستنكرها، رغم عمق تأثيرها وامتداد آثارها السلبية، إنها ظاهرة ”المدير الأجنبي“ حيث يتوزع الآسيوي هنا، والعربي هناك، وربما الغربي أو الأوروبي في مواقع قيادية أُخرى، بينما يقف الموظف المواطن أو حتى الخليجي في الصفوف الخلفية ليؤدي فقط أدوارًا تنفيذية ثانوية، بل وغالبًا ما يكون خارج دائرة صناعة القرار أو التأثير الحقيقي في بيئة العمل ”إلا النُّزرَ اليسير“.

هذه الظاهرة التي بدأت بذريعة الحاجة إلى الخبرة أو ”نقل المعرفة“ أو ”الاستفادة من التجارب الدولية“ أو لتلبية متطلبات المرحلة الانتقالية في بعض المشاريع ”وغيرها“ … ولكنها، وللأسف الشديد، تحولت مع مرور الزمن إلى نمط إداري شبه دائم، يُكرّس التبعية، ويهمّش الكفاءات الوطنية، رغم ما تحمله من مؤهلات علمية وتجارب عملية. ومن المؤسف كذلك أن هذه العقدة لا تتعلق بالكفاءة والفعالية في كثير من الأحيان، بل قد ترتبط بالثقافة المؤسسية غير المنصفة التي تعزز الاعتقاد بأن ”حمامة الحي لا تُطرب“، أي أن القيادة الوطنية مهما بلغت من الكفاءة أو القدرة أو الإبداع الحقيقي، لا تأتي إلا من الغريب أو من الخارج.

وبالرغم من وجود الكفاءات والقيادات السعودية المؤهلة علميًا وعمليًا، إلا أن فرصها في الصعود والتطور المهني ما زالت محدودة، إما بسبب ثقافة المؤسسة التي ما زالت تؤمن بتفوق العنصر الأجنبي، أو بسبب ضعف آليات التمكين الداخلي كعدم وجود خطط واضحة لتأهيل الكفاءات الوطنية، أو بسبب غياب الثقة الحقيقية في قدرات الكفاءات الوطنية، أو حتى لاعتبارات تتعلق بتكلفة التوظيف أو التعيين.

إن استمرار هذه الظاهرة قد لا ينعكس فقط على العدالة الوظيفية، أو على تكافؤ الفرص، بل سيترك في المستقبل القريب أثرًا سلبيًا عميقًا على روح الانتماء الوطني، وسيزعزع الثقة بالعدالة المؤسساتية، بل وسيُعمّق حالة الإحباط والانكسار النفسي والمهني بين الطاقات السعودية المؤهلة، وبين الرؤية الوطنية الطموحة التي تؤكد على التمكين والتوطين وتحقيق أقصى استفادة من الكفاءات الوطنية في بناء اقتصاد معرفي مستدام.

وفي هذا المقال سنسلط الضوء على جذور هذه الظاهرة، وسنُناقش بإذن الله تعالى أسبابها وتداعياتها على البيئة، كما سنُحاول أن نستشرف الحلول الممكنة للخروج من هذه العقدة التي لا تليق بمرحلة التحول والتمكين التي تعيشها منطقتنا اليوم.

أولاً: الجذور النفسية

بدأت هذه العقدة مع بدايات الطفرة النفطية في سبعينيات القرن الماضي، عندما لجأت الشركات الخليجية إلى استقدام الخبرات الأجنبية لإدارة المشاريع الكبرى، التي لم تكن القوى الوطنية آنذاك مهيأة لها بعد، وقد كان هذا الخيار في حينه مبررًا وواقعيًا، بل وشكّل خطوة مهمة في بناء البنية التحتية الحديثة، ولكن المشكلة لم تكن في الاستعانة، بل في الاستمرار غير المبرر له، حتى بعد نضوج الكفاءات المحلية، بدعوى ”نقل المعرفة“، وهو مفهوم استراتيجي يُقصد به عملية ممنهجة تهدف إلى إيصال الخبرات والمعارف والمهارات من جهة تمتلكها «أفراد، مؤسسات، دول» إلى جهة أخرى بحاجة إليها «كوادر محلية، شركات ناشئة، أو مؤسسات في طور النمو» بهدف تطوير الأداء، وبناء القدرات، وتحقيق الاستقلال المهني والإنتاجي في المستقبل. ولكن هذه الذريعة أو هذه الدعوة تحولت مع الوقت إلى قناعة راسخة داخل بعض المؤسسات بأن المدير الأجنبي هو الأذكى، والأكثر عدلًا، والأكثر مهنية… وهنا تكمن المشكلة.

ولذا نلحظ في كثير من الشركات أو المؤسسات تعيين مدراء أجانب على وظائف قيادية رغم توفر الكفاءات الوطنية المؤهلة، بينما كان بالإمكان ترقية الموظف المحلي الذي يشغل منصب نائب المدير منذ سنوات، ويملك الخبرة والمعرفة الدقيقة ببيئة العمل والأنظمة المحلية، لكن القناعة غير المعلنة تقول ”يجب أن يأتي الحل من الخارج“.

ثانيًا: الجذور الاجتماعية

إلى جانب الجذور النفسية المرتبطة بالشعور بالنقص أو ضعف الثقة بالكفاءات الوطنية، هناك جذور اجتماعية أعمق ساهمت في ترسيخ عقدة ”المدير الأجنبي“، وهي جذور نشأت من سياقات اجتماعية وثقافية مرّت بها المجتمعات الخليجية خلال مرحلة التحول السريع بعد الطفرة النفطية، كالنظر إلى ”الأجنبي الغربي بالتحديد“ على أنه يمثل الحداثة، والعلم، والحضارة، بينما يُنظر إلى الموظف المحلي بأنه ”تحت التدريب“ بغض النظر عن المؤهلات، أو عن ضعف الوعي الاجتماعي بقيمة التوطين الحقيقي. فمثلًا، كان الكثير من الناس يفتخرون بأن مدير مدرستهم أو شركتهم أو مؤسستهم ”أجنبي“، وكأن ذلك يرفع من مكانة الجهة أو يعزز من صورتها الذهنية أمام الآخرين، أو يمنحها وجاهة شكلية في الأوساط الإدارية، متجاهلين حقيقة أن التقدم الحقيقي لا يُستورد وإنما يُصنع من الداخل.

وهكذا، تلاقت الجذور النفسية التي تغذي الشعور بالدونية، مع الجذور الاجتماعية التي تكرّس التبعية والقبول، فأنجبت عقدة دفينة لا تزال تعيق التمكين والتوطين والتحفيز الوطني، وتؤجل صناعة القائد المحلي الحقيقي.

ثالثًا: الأسباب التي تقف وراء الظاهرة

لكي نفهم حقيقة وواقع هذه الظاهرة بعيدًا عن الانطباعات العاطفية أو التفسيرات السطحية، من المهم أن نطرح على أنفسنا التساؤل الواقعي التالي: ما الذي يجعل بعض الشركات أو المؤسسات تفضّل المدير الأجنبي على المدير المحلي؟ وهل فعلًا كل مدير أجنبي أكثر كفاءة، ونزاهة، ومهنية من المدير المحلي، أم أن هناك خللًا في البيئة الإدارية التي جعلت من المدير الأجنبي خيارًا مفضلًا رغم وجود كفاءات وطنية مؤهلة؟

من واقع ما عشته في ميدان العمل، أرى أن هناك جملة من الأسباب تدفع البعض من أصحاب المؤسسات إلى تفضيل المدراء الأجانب على المدراء المحليين، ولعل من أبرز هذه الأسباب:

1- أن المدير الأجنبي غالبًا ما يأتي بخبرة دولية واسعة، وتعني أن هذا النوع من المديرين قد عمل في عدة دول، أو في عدة شركات عالمية متعددة الجنسيات، واكتسب من خلال ذلك تنوعًا في الخبرات والمهارات، وهذه الخبرة الدولية الواسعة منحته فهمًا واسعًا لبيئات العمل المختلفة، وإلمامًا بأفضل الممارسات العالمية، وشبكة واسعة من العلاقات مع الموردين أو الشركاء أو الخبراء الدوليين، يمكن أن تستفيد منهم المؤسسة.

2- الانضباط المهني والجدية، وتعني أن المدير الأجنبي غالبًا ما يتميز بسلوكيات مهنية تتسم بالالتزام والصرامة في العمل، وهي ناتجة عن ثقافته العملية وتجاربه السابقة، مثل الالتزام بالمواعيد والمهام، والوضوح في الأهداف والنتائج، والتعامل الاحترافي، والمحاسبة والمساءلة، والتركيز على الإنتاجية، وما إلى ذلك.

3- الحيادية في اتخاذ القرار، وهذه المسألة تشير إلى سلوك إداري يتسم بتجرد الشخص من العلاقات الشخصية والانتماءات المحلية، والاعتماد على معايير مهنية بحتة عند إصدار القرارات، كالبعد عن التحيزات الشخصية أو القبلية أو غيرها، ما يُكسب قراراته صبغة ”مؤسسية“ مبنية على الأداء والمعايير وليس على ”من هو فلان“ أو ”من يكون فلان“، فضلًا عن الاستناد إلى الأنظمة والسياسات المكتوبة دون مجاملة أو محاباة.

4- ثقته العالية بنفسه ووضوح رؤيته، وهي في الغالب ما تنبع من عمله المتنوع في البيئات المختلفة، ومن تعامله مع التحديات، والأنظمة الإدارية الداعمة التي تحترم التخصص وتُدرب القادة منذ وقت مبكر، مما يعزز لديه وضوح الرؤية والثقة بالنفس. بعكس ما يحدث عندنا من النظر إلى المبادرات أو المحاولات أو الجهود الفردية بعين الريبة أو التهميش، مما يُضعف الثقة بالنفس والتراجع إلى الوراء.

لكن - وأقولها بكل إنصاف وأمانة - الكفاءات المحلية موجودة، وقادرة على التفوق والإنجاز، إلا أن الكثير منها لم تُمنح له البيئة المناسبة، ولا الفرصة العادلة، ولا الثقة الكافية في قدراته، وطالما لم تُفتح لهم الأبواب، ويُعاد النظر في آليات التمكين، والتقييم، والتدرج الوظيفي، فستظل المؤسسات تدور في حلقات مفرغة من الاستيراد الإداري، وستتأخر في بناء القيادات الوطنية المستدامة، التي تُعبّر عن هويتها وتفهم سياقها، وتنهض بها من الداخل.

رابعًا: نماذج وأمثلة واقعية

من واقع ما شهدته خلال مسيرتي المهنية وتعاملي المباشر مع عدد من المؤسسات أو المنظمات في المجال المهني، لاحظتُ تزايد الاعتماد على تعيين ”المدراء الأجانب“ في المناصب القيادية تحت مبررات غالبًا ما تبدو مغرية كنقل الخبرة وتحسين الكفاءة والتطوير وما إلى هنالك، ولكن ما رأيته ميدانيًا وسمعتهُ من العاملين أو الموظفين أنفسهم أن كثيرًا من هذه التجارب لم تأتِ بالنتائج المتوقعة، بل أفرزت تحديات أكبر مما كان يُظن.

ومن هنا سنُشير إلى بعض النماذج والأمثلة الواقعية التي تابعت وقائعها عن كثب، لعلها تُسهم في إعادة التفكير في منهجيات التعيين، وتفتح أعين أصحاب القرار على أهمية التحقق من الكفاءة الفعلية لا الورقية، والاحتكام إلى جودة الأداء لا إلى جنسية الموظف، ومنح الكفاءات الوطنية الفرصة العادلة لإثبات ذاتها والمساهمة في قيادة التغيير المؤسسي الحقيقي، وإليك بعض هذه النماذج التي تجسّد هذه المفارقات:

1- في إحدى كبرى شركات التصنيع، تم تعيين مدير أوروبي يحمل مؤهلات عالية في إدارة أنظمة التصنيع، وتم تقديمه بوصفه ”المنقذ“، لكنه خلال أقل من عام غيّب الكفاءات السعودية، وأطلق مشاريع تقنية دون تدريب كافٍ، وأحدث ارتباكًا في خطوط الإنتاج، وكانت النتيجة تعثر التنفيذ وتقديم الاستقالات الجماعية.

2- في أحد المستشفيات الخاصة، تولى مدير آسيوي معروف بسيرته المهنية الطويلة في مستشفيات دولية، وقد أُعطي صلاحيات واسعة، وبدأ بتقليص الكوادر السعودية وزيادة الطواقم الأجنبية لتقليل التكلفة، وبعد أشهر قليلة ظهرت مشاكل في جودة الخدمة وارتفعت شكاوى المرضى، بل وتراجعت ثقة المجتمع المحلي بالمستشفى، حتى إن بعض الأطباء السعوديين غادروا احتجاجًا على تهميشهم.

3- في شركة مقاولات متوسطة، تم استقطاب مدير عربي يمتلك خبرة قوية في مشاريع إنشائية بدول الخليج، لكنه لم يفهم طبيعة العمل، فبدأت المشاريع تتأخر وظهرت مخالفات كبيرة في العمل.

خامسًا: رسالة من قلب التجربة إلى السادة صنّاع القرار في مؤسساتنا

حين نكتب عن ”عقدة“ المدير الأجنبي، فنحن لا نكتب عن جنسية، ولا عن أشخاص محددين، ولا نعترض على تبادل الخبرات والمعارف، ولا نُغلق الأبواب أمام الكفاءات القادمة من الخارج.

لكننا بكل بساطة نُمسك القلم لنسأل سؤالًا صادقًا: ”لماذا نُهمّش أبناء الوطن رغم إخلاصهم وخبراتهم المتراكمة؟ ولماذا نغضّ الطرف عن الكفاءات الوطنية التي أثبتت جدارتها في الميدان؟ فقط لأننا أسرى فكرة أن القادم من الخارج أكثر قدرة أو أكثر أهلية؟“

لقد رأيتُ بأمّ عيني، وزاملتُ العديد من الأوفياء، وأنتم كذلك لا شك أنكم قد رأيتم وسمعتم مثل ما رأيت وسمعت، عن أولئك الذين أفنوا سنوات طويلة من أعمارهم في خدمة مؤسساتهم أو شركاتهم، وكانوا يعرفون تفاصيلها كما يعرف المرء تفاصيل منزله، ويحفظون وجوه الموظفين واحدًا تلو الآخر، ثم وبكل بساطة يُقصَون جانبًا عند أول فرصة قيادية تُتاح لصالح مدير ”أجنبي“ لا يزال يتعرّف على الممرات والمكاتب والأسماء، ويظل ابن الوطن واقفًا في الظل يحمل في قلبه الحسرة والألم، وفي عينيه بريق انتظار موجع لسؤالٍ ظل معلقًا على حافة الأمل: ”ألم أكن أنا الأحق؟ ألم أكن أنا الأولى؟“

أنا لا أكتب من فراغ، بل من واقع عشته وسمعته وراقبته وتابعته. ومن هنا أطرح بكل محبة ومسؤولية بعض المقترحات التي أرى أنها جديرة بالتأمل والتطبيق، وهي كالتالي:

1- اجعلوا الكفاءة هي المعيار الوحيد للتقدم، لا الجواز، ولا المظهر، ولا اللهجة، ولا العلاقات، ولا الانتماءات الضيقة، فالأوطان لا تنهض بالمجاملات، ولا بالمظاهر، بل تنهض حين يُمنح الموقع لمن يستحقه بعمله وعقله.

2- حين يُستقدم ”المدير الأجنبي“، فليكن حضوره مؤقتًا، ومهمته محدودة وواضحة، تتركز على نقل المعرفة وبناء القدرات وتطوير النظم، لا أن تُسند إليه إدارة المصير. فالغاية من استقدامه يجب أن تكون التعلّم منه، لا التسلُّم الكامل له، فالمؤسسات التي تستورد العقول دون أن تصنع قياداتها الداخلية، تبقى أسيرة التبعية، ضعيفة في قراراتها، ومُعرضة للاهتزاز عند أول غياب لتلك العقول، لأنها ببساطة شديدة لم تؤسس دعائمها على كفاءات وطنية راسخة.

3- اجعلوا الثقة سلوكًا يُمارس لا شعارًا يُرفع، فالموظف حين يشعر أن الطريق مغلق أمامه، وأن فرص التقدّم تُمنح لغيره بلا معيار، يبدأ في الانطفاء رويدًا رويدًا، حتى لو بقي حاضرًا بجسده.

وأخيرًا: أيها الأعزاء

إن المؤسسات لا تُبنى فقط بالعقود ولا بالخطط، بل حينما يشعر الناس فيها بأنهم جزء منها، وأن تعبهم يُحترم، وطموحهم يُنظر إليه كاستثمار، لا كتهديد. وما أجمل أن نرى يومًا مديرًا وطنيًا في منصب قيادي، لا لأنه ”الابن“ فقط، بل لأنه استحق، وأُعطي، فأبدع.