مخاطر الأزمة السورية على الأمن القومي العربي
في مطلع هذا العام وبعد اندلاع الأزمة السورية مجدداً وبشكل عنيف وغير مألوف في تاريخ سوريا المعاصر، أشرنا إلى أن المعالجة الجوهرية للأزمة، ينبغي أن تنطلق من التسليم بعروبتها ولم يكن ذلك من قبلنا، صناعة أو اختراعاً، بل انطلق من قراءة لواقع بلاد الشام، لأكثر من مئة وسبعين عاماً فحركة اليقظة العربية، في مواجهة الاستبداد العثماني والتي بزغت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، انطلقت من بلاد الشام، من سوريا ولبنان.
وقد عبّرت حركة اليقظة، في عملية التنوير، عن قوة حضورها، بشكل أفقي في المجالات الأدبية والفكرية والسياسية وأيضاً في وضع اللبنات الأولى، للتنمية الاقتصادية وكان أمل الذين قادوا تلك الحركة كبيراً، في أن يحظوا بتأييد ودعم الغرب، لطموحاتهم، في بناء مستقبل أفضل لأوطانهم ولم يترددوا، في الانحياز، للقوى الدولية التي ناهضت الأتراك، بحسبان أن ذلك هو السبيل لتحقيق الاستقلال وإنجاز الوحدة القومية، للمشرق العربي، على طريق تحقيق الوحدة العربية الشاملة.
وجاءت اتفاقية سايكس - بيكو، لتقسيم المشرق العربي بين البريطانيين والفرنسيين ووعد بلفور، بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، لتشكل خنجراً مسموماً أودى إلى حين بالحلم العربي، في تحقيق الوحدة وكانت نتائج ذلك، بروز الإسلام السياسي، في نهاية العشرينات من القرن الماضي وتحميل القوى العروبية، مسؤولية فشل مشروع النهضة.
بين الحربين العالميتين، شهدت مصر، صعود حزب الوفد، ممثل الليبرالية التي رفعت صوتها مطالبة بوحدة المصريين، على اختلاف أطيافهم، منادية بوحدة الهلال مع الصليب، لإلحاق الهزيمة بالاحتلال البريطاني وتحقيق الاستقلال وقد كبحت تلك المحاولة، بانقلاب قاده إسماعيل صدقي، ليدشن، أول تجربة سياسية لنظام شمولي، في تاريخ مصر المعاصر.
لكن ما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل مرحلة مهمة في تاريخ شعوب العالم الثالث، حيث كان أهم معلم من معالم تلك الحقبة، صعود نجم حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لم تكن بلاد الشام، بعيدة عن ذلك الحراك العالمي، بل تواجدت في القلب منه ومن بلاد الشام، أعيد مجدداً طرح سؤال الهوية وما كان للجدل الفكري، حول ماهيتها، أن يجد بيئة أفضل من هذه البلاد، فمنها انطلقت حركة اليقظة وكانت المركز الذي شهد تنكر الغرب لمبادئه وخذلانه للأماني والتطلعات العربية، في الحرية والوحدة وحق تقرير المصير.
وكان الجواب الذي قدمه المفكرون السوريون، هو انتماء سوريا لعروبتها، لقد وجدت هذه الأمة، من خلال حادثة تاريخية مهمة وبارزة، هي بروز الدعوة الإسلامية، التي انطلقت من بطحاء مكة ونشوء الحضارة العربية الإسلامية، التي ارتبطت بتلك الدعوة.
وعلى هذا الأساس، فإن الإنجاز التاريخي، الذي حققه الإسلام للعرب، لا يمس في جوانبه الإيجابية، العرب المسلمين وحدهم، بل هو إنجاز لكل العرب، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأقطارهم، ذلك لأنهم وجدوا أنفسهم أمة واحدة، من خلال هذه الدعوة ومن خلالها أيضاً، استطاعوا نشر رسالتهم الحضارية، في مختلف أرجاء الكرة الأرضية ولذلك فإن على العرب، إذا أرادوا أن يحققوا تواصلهم الحضاري، أن يستلهموا، من ذلك الإرث، محفزات في انطلاقتهم الجديدة، لبناء أوطانهم.
ولا يمكن تحقيق ذلك، إلا من خلال نقلة تاريخية، تلامس العقل والروح، توضح الرؤية وتقوي العزيمة وفي معمعان هذا التحول في العقل والروح، يتم تحقيق الوحدة، القادرة على إحداث تحولات رئيسية، في البنيان السياسي والاجتماعي للأمة.
وهكذا فنحن حين نحذر من مخاطر على الأمن القومي العربي، نتيجة الأزمة السورية الراهنة، فإننا نستحضر تاريخ بلاد الشام، ودورها في حضارة العرب، حيث فيها صكت أول نقود عربية وأسست الدواوين ومنها بدأ فعلياً عصر الفتوح إلى مختلف بقاع العالم ولم يتم ذلك بالإرهاب والقسر، ولكن بالمجادلة بالتي هي أحسن.
سوريا العربية، بلد التنوع، في الأديان والمذاهب والمكونات الاجتماعية، لا يمكن أن تكون حكراً على مذهب، أو تعسف بالرأي، بل على التسامح ورفض سياسة الإقصاء واعتماد الرأي والرأي الآخر وقد كانت الاختلافات، في التاريخ السوري، عامل تخصيب وإثراء. لأن وحدة الرأي تعني السكون والسكون يعني رفض التطور والوقوف ضد حركة التاريخ.
سوريا الآن تمر بمرحلة خطرة، تتقاذفها القوى الإقليمية، يمنة ويسرة، وتتعرض يومياً، لاعتداءات إسرائيلية غاشمة، يضاف إلى ذلك ما تمارسه عناصر التكفير من تسعير للنزعات الطائفية ومن حروب فتنة، أشعلت في غرب سوريا، في اللاذقية وطرطوس، لتنتقل لاحقاً، في جرامانا بريف دمشق وجبل العرب، في محافظة السويداء وليس هناك ما يشي بمحاولات جادة لوضع حد لجذور الفتنة.
لسوريا، دَين كبير في أعناقنا وليس منّة على شعبها أن يقف العرب معها في هذه المحنة وأن يتم استخدام مختلف الوسائل لوقف الاعتداءات الإسرائيلية اليومية عليها. وبالمثل ينبغي العمل الجاد للتصدي للفتنة، التي يشتعل أوارها في عدد من المدن والبلدات السورية، تلك ليس مقابلة ديون مستحقة لأهلنا وأشقائنا فقط، بل هي أيضاً خطوة ضرورية لحماية الأمن القومي العربي، وتجنيب الأمة، مخاطر التقسيم والتفتيت ومسؤولية العرب، قادة وشعوباً، لنصرة سوريا، مسؤولية جماعية وليست فرض كفاية.