آخر تحديث: 6 / 5 / 2025م - 4:34 م

أم مهدي.. قلب أم وعقل فيلسوف

عبد الباري الدخيل *

دخلتْ عليَّ زوجتي وأنا غارق في التفكير، ولم أتنبه لوجودها إلا بعد أن وضعت يدها فوق كتفي.

قالت: أين وصلت؟

رفعت يدي وقلت مبتسمًا: ما زلت هنا، لكنني غارق في التفكير.

طلبت منها الجلوس وقلت: شغلتني فكرة وأحب أن أعرضها عليك.. أفكر بإقامة حفل تكريم لأم مهدي، تقديرًا لجهودها مع العائلة، وأراه مناسبًا بعد أسبوع من ناصفة شعبان.

أعجبتها الفكرة واقترحت شهر رمضان موعدًا للحفل، لنستعد جيدًا وندعو الأسرة لسحور مفاجئ يبهجها، مع التأكيد على سرية الترتيب لضمان نجاح المفاجأة.

وفي تلك اللحظة، دخلت علينا طفلتي «لولو». ما إن سمعت اسم عمتها حتى قالت بحماس: ”بابا أنا أحب عمه أم مهدي وايد وايد“.

ابتسمتُ وأنا أقول في خاطري: هل خلق الله إنسانًا تعرف عليها ولم يحبها؟ ”معقولة في أحد يكره أختي أم مهدي“؟

وسألتها: ”بابا ليش تحبين تروحين بيت عمه أم مهدي؟“

قالت: مريح.. ”العمه طيبه وايد“.

أثارت كلمات «لولو» في قلبي موجة من التأمل، فاستدرت نحو زوجتي وقلت: لم تكن الأغنى، ولم يكن بيتها الأكبر، لكن قلبها اتسع للجميع، وكأن الله وسّعه بقدر محبتها.

قالت: ”تصدق؟ أنا أرتاح في بيت أم مهدي كأنه بيت أختي“.

أختي أم مهدي هي الثانية في ترتيب البنات، لهذا تحملت بعد وفاة أمي تربية زينب وعلي، وحتى بعد زواجها بقيت هي أمهم التي تتابع أحوالهم.

أتذكر يوم أن أجريت لي عملية «الزايدة» وكنت في السنة الثامنة، أصبحت الممرضة التي تسهر على راحتي، وكانت تحكي لي القصص حتى أنام هادئًا.

فنانة في الطبخ تنافس أفضل شيف في العالم، وكنّا دائمًا نقول إنها تقرأ تعاويذ سحرية على الأكل لهذا ندمنه ونشتاق إليه.

حتى زملائي في العمل وقعوا في أسر نكهة طبخها؛ دعوتهم يومًا لوليمة أعدتها، ولم يصدق أحدهم أن هذا الطعام صُنع في بيت، قال مازحًا وهو يضع الملعقة جانب الطبق: ليت لي بطنًا آخر، فطعامها لذيذ يجب ألا نتوقف عن أكله.

كما أنها فنانة في الحديث، تتحدث بلباقة وأدب، لم تجرح يومًا أي أحد، وقد وهبها الله خفة دم وظرافة وموهبة الحكاية، لهذا عندما تقص قصة تكون محور الجلسة.

ما زرتها إلا ووجدتها ممسكة بكتاب، أو تراه بجانبها، ينتظر أن تفرغ له.

ويصادف أن نقرأ خبرًا أو مقالًا في جريدة أو مجلة فيكون محور حديثنا، فتمسك بتلابيب الموضوع، وتشبعه إضافات أو نقدًا.

الأخت نعمة خلقها الله لتكون لنا كالأم الحنون.. لا شيء يشبه كف أخت تمسك بيد أخيها، لتطمئن عليه.

قالت زوجتي: لقد استطاعت بطيبها أن تجمع القلوب حولها، هل تتذكر يوم أن أصيبت بفيروس كورونا؟

لقد ارتفعت الأيدي، وسكبت الدموع، وفزعت القلوب إلى الله تدعو لها.

قلت: نعم أتذكر كيف كانت هواتفنا لا تهدأ، الاتصالات تأتي من كل ناحية تسأل عنها، وتدعوا لها.. وأتذكر كيف كنت أراقب الهاتف كل دقيقة، وأدعو الله أن تكون هي المتصلة، لا خبرًا آخر.

بعد أسبوع تلقيت اتصالاً منها تستنكر الفكرة، لا أعلم كيف تسرب لها خبر الحفل، وقالت: الوردة يا أخي تعطي بلا حدود، ونحن لا نريد منكم إلا الحب والتقدير، لا تسعدنا الهدايا بقدر سعادتنا بكلمة ”شكرًا“.

ثم قالت: "حكت لي صديقتي، أن أبناءها اعتادوا الصمت بعد كل وجبة، لا كلمة شكر، ولا امتنان. حتى وضعت يومًا البرسيم على المائدة. وحين صدموا، سألتهم بهدوء: تشعرون بالفرق؟ قالوا: كيف لا؟ طعامك لا يُقارن. فقالت مبتسمة: وهل استكثرتم كلمة امتنان على مذاقٍ يليق بكم؟

ثم أخذت نفسًا عميقًا وأكملت: يا أخي لماذا ننتظر أحبتنا تموت لنبين لهم مدى حبنا لهم؟

سؤالها كان كافيًا ليوقظني، ويعيد ترتيب قلبي: لماذا ننتظر حتى يفوت الأوان؟ أدركت أن القلب الذي يعرف كيف يمنح، لا ينتظر المقابل، بل يصنع سعادته في منح الحب، قبل أن ينطقه الآخرون.

وهناك أفراد قد لا تكتب أسماءهم في كتب التاريخ، لكن قلوبنا تحفظهم كأبطال.. مثل أم مهدي.