آخر تحديث: 29 / 4 / 2025م - 4:50 م

تقاعد مبكر

رضي منصور العسيف *

في ركنٍ من أركان الدائرة، جلس العم صالح يتأمل في دفتر عمره، وكل صفحةٍ فيه تنبضُ بالحكمة، وتئنّ من التعب. لم يكن موظفًا عاديًا، بل روحًا تمشي على سطر من الصبر، وقلبًا يخفي وراء طمأنينته وجعًا لا يراه إلا من اقترب حقًا.

دخل عليه زميله علي، وقال بقلق:

- هل سمعت ما قاله مديرنا الجديد؟ إنه لا يحب الاستئذانات المتكررة… ماذا عن مواعيدك للغسيل؟

أجاب العم صالح بابتسامةٍ ممزوجةٍ بالرجاء:

- أظنه لا يقصد مرضى مثلي… بل الموظفون الأصحاء.

لكن في اليوم التالي، اصطدم العم صالح بالحقيقة المؤلمة، حين جلس أمام مكتب المدير الجديد، ينتظر نصف ساعة عند الباب، ثم يدخل ليقابل وجهاً خالياً من الرحمة.

- أحتاج إذنًا للذهاب إلى جلسة الغسيل الكلوي، أنا مريض فشل كلوي.

رفع المدير رأسه دون اكتراث:

- هل عندك تقرير طبي؟ كيف أعرف صدق كلامك؟

مدّ العم صالح ذراعه، مشيرًا إلى آثار الغسيل التي لم تترك جلدًا إلا ووشمته بالوجع، وقال بصوت خافت:

- هذه تقارير جسدي…

لكن المدير لم يرَ سوى ”نظامٍ إداري“ يتحدث باسمه، وقال ببرود:

- أحضر تقريرًا رسميًا… أو غيّر مواعيد الغسيل… لا نريد أن يتعطّل العمل بسببك.

خرج العم صالح يحمل خيبةً لم يحمل مثلها من قبل. لم يكن يتوقّع أن يُقابل صراعه من أجل الحياة بهذه القسوة. في مركز الغسيل، فوجئ الأطباء بارتفاع ضغطه لأول مرة… لم يكن المرض وحده من ينهكه، بل قسوة البشر.

في اليوم التالي، سأل المدير بجمود:

- هل أحضرت التقرير؟

لم يردّ العم صالح، فقط نظر إليه بنظرةٍ صامتة كأنها تحمل ألف كلمةٍ ودمعة.

جاءه علي وقال:

- لا عليك يا عم… سأكلمه أنا.

لكنه خرج من المكتب وقد شحب وجهه:

- معك حق… هذا رجل لا يعرف الرحمة.

بعد أسبوع، ومع كل جلسة غسيل ترافقها معاناة نفسية، أحضر العم صالح التقرير. لكن المدير قال:

- لا يُعقل أن تتغيب ثلاثة أيام… غيّر المركز.

في تلك اللحظة، قال العم صالح بكلمة خرجت من قلبٍ مطحون:

- ارحموا من في الأرض… يرحمكم من في السماء.

لكن المدير أجابه بجفافٍ:

- نحن في نطاق العمل… لا مكان للعواطف.

خرج العم صالح، كاتمًا دمعةً أرادت أن تصرخ، لكنه كابر. سأله علي:

- لمَ لا تنتقل لفرعٍ أقرب؟

أجاب:

- هنا عشت، هنا عرفتموني، ولن أترك كل شيء من أجل رجلٍ لا يعرف الرحمة. سأتحمّل… أو أبحث عن مواعيد أخرى… أو أخذ إجازة كل يوم غسيل…

لكن المرض لم ينتظر، ولا الظلم يرحل بلا أثر. وفي يومٍ ثقيل، همس العم صالح بصوتٍ موجوع:

- سأتقاعد… قبل أن يقتلني الهمّ.

كتب خطاب تقاعده بخطٍّ مرتجف، كمن يكتب وداعه. جاء الرد بالموافقة.

خرج في صمت. استوقفه شعور غريب، كأن المكان يودّعه أيضًا. التفت نحو باب المكتب، رأى المدير يدخل، فتلاقت أعينهما… وقالت العيون ما لم تقله الكلمات:

”لقد ربحتَ مقعدك… وخسرتَ إنسانك.“

كاتب وأخصائي تغذية- القطيف