آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 4:16 ص

فن إدارة الوقت: حكمة الحياة ومسيرة الإنسان بين العمل والغاية

عماد آل عبيدان

الحياة ليست سوى رحلة ينسجها الإنسان بأفعاله وأفكاره، والوقت هو نسيجها الثمين الذي لا يُستعاد. فمن أحسن إدارته، فقد أحسن بناء مستقبله في الدنيا والآخرة، وترك أثرًا خالدًا يمتد عبر الأجيال.

فالإنسان، منذ لحظة وعيه وتمييزه، يُمنح رأس مال ثمين لا يقدَّر بثمن: الوقت. ومع ذلك، نرى كثيرين يتصرفون فيه وكأنهم يملكون خزائن لا تنضب، فتضيع أعمارهم بين عملٍ روتيني ونومٍ مُنهِك، بينما يُشيّد آخرون صروحًا عظيمة رغم امتلاكهم للوقت ذاته.

الوقت بين الانشغال والإنتاجية

من المثير للتأمل أن الغالبية تشتكي الانشغال الدائم، ومع ذلك، لا تجد لهم أثرًا يذكر في البناء المجتمعي أو تحقيق إنجازات حقيقية. فتجد أحدهم يعتذر عن حضور مناسبة اجتماعية بحجة أنه“مشغول”، بينما في الواقع قد يقضي ساعات في أمور لا تضيف شيئًا لنفسه أو لمجتمعه.

فهل كان هؤلاء في حقيقة الأمر يديرون وقتهم؟ أم أن الوقت كان هو الذي يديرهم؟

الإدارة الواعية للوقت: فن الحياة الحقيقي

الإدارة الحقيقية للوقت لا تعني ملء كل لحظة بالنشاط، بل تعني اختيار الأولويات بحكمة، وتوجيه الجهد نحو ما يُحدث أثرًا حقيقيًا في الحياة الشخصية والاجتماعية والدينية.

لقد علمنا رسول الله ﷺ وأهل بيته الطاهرون كيف يكون الوقت وسيلة لتحقيق الغاية السامية. فحين قسم رسول الله ﷺ يومه، جعل لكل جانب من حياته نصيبًا: عبادته، عمله، تعليمه للناس، واهتمامه بأسرته. فكانت حياته نموذجًا متوازنًا يُلهم كل من أراد النجاح في إدارة وقته.

الإدارة المتكاملة للوقت وفق منظور شامل

لإدارة الوقت بفعالية، علينا أن نوازن بين أبعاد الحياة المختلفة:

1. النفس البشرية:

• أن يبدأ الإنسان بوقفة صادقة مع ذاته، متسائلًا: ما الذي أريد تحقيقه في هذه الحياة؟

• تحديد الأهداف ووضع خطة زمنية تُوجه خطواته نحو الإنجاز.

2. الأسرة:

• قضاء وقت نوعي مع أفراد الأسرة، فالتربية والتواصل العاطفي لا يُعوَّض بثراء ولا منصب.

• ترسيخ القيم الإسلامية في البيت من خلال تخصيص وقت للحديث، التعليم، والعبادة الجماعية.

3. المجتمع:

• الانخراط في الأنشطة التطوعية، وبذل الجهد لخدمة الآخرين، فتلك من أهم مصاديق البركة في العمر.

4. النظرة الإسلامية والأخلاقية:

• الوقت ليس ملكًا للإنسان وحده، بل هو أمانة يستوجب استثمارها فيما يرضي الله تعالى.

• قال الإمام علي :“إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما”«نهج البلاغة، الحكمة 77»، وهي دعوة صريحة لإدراك قيمة الزمن واستثماره.

أمثلة من التاريخ تشهد بالنجاح

• الإمام الصادق : رغم انشغاله بالتدريس وإعداد العلماء، لم يغفل عن التواصل مع الناس ومساعدتهم في أمور دينهم ودنياهم. «الكليني، الكافي، ج 1، باب فضل العلم».

• الإمام علي : كان نموذجًا يُحتذى به في تنظيم الوقت، فبين القضاء في شؤون الناس، والعبادة، والعلم، والجهاد، كانت حياته قائمة على إدارة متقنة للوقت. «نهج البلاغة، خطبة 193».

هُنا: رسالة لكل مشغول

تذكر دائمًا أن الجميع مشغولون، لكن الفارق هو فيمن يُحسن إدارة وقته ليجعل من انشغاله أداة إنتاج وعطاء. فالحياة قصيرة مهما طالت، والمهم هو الأثر الذي تتركه بعدك.

قال النبي الأكرم ﷺ:“اغتنم خمسًا قبل خمس… شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”«الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، حديث رقم 7846».

فلا تجعل الانشغال حجة لغيابك عن دورك الحقيقي في بناء نفسك وأسرتك ومجتمعك، بل كن ممن يُشار إليهم بالبنان بأنهم عاشوا حياة ملؤها الإنجاز، وتركوا أثرًا يضيء الدروب من بعدهم.