قراءة لبعض نصوص الشاعر والناقد الأستاذ فريد النمر
يُعدُّ الشاعر والناقد فريد النمر من الأسماء البارزة التي استطاعت أن تنحت حضورها في المشهد الأدبي، حيث تتجلى في نصوصه روحٌ متأملة، ورؤية فلسفية تُزاوج بين العمق الوجداني والطرح الفكري الرصين. إن قراءة نصوصه تكشف عن تجربة شعرية غنية تستند إلى وعي عميق بالذات والكون، وتستحضر قضايا وجودية وإنسانية تعكس قلقًا داخليًا وتأملًا في جوهر الحياة.
في قصيدة ”منفى الليل“ يُطلّ علينا الشاعر بتجربة تنضح بالتأمل العميق حول العلاقة المتوترة بين الذات والليل، حيث يتحول الليل في النص إلى كيان ميتافيزيقي يتجاوز كونه مجرد إطار زمني ليصبح رمزًا للتيه والاغتراب.
يكرر الشاعر عبارة: ”لا شأن لي بالليل“، وهي ليست مجرد لازمة لغوية بقدر ما تعكس موقفًا وجوديًا من عالم يلفّه الغموض والقلق. هذا التكرار، الذي يضرب بجذوره في عمق البنية الشعورية للنص، يُعزّز إحساس العزلة والرفض القاطع لأي اندماج مع عالم الليل وما يحمله من ظلال وسكون.
الصور الشعرية هنا مشحونة بالدلالات الفلسفية؛ فحين يقول:
”سلتين وليس لي / من حنطة تطفو بها الأحقاب“
فهو يرسّخ فكرة الفقد والتشتت، حيث تتحول ”الحنطة“ - وهي رمز الخصب والحياة - إلى شيء متلاشٍ لا يستقر في يد الشاعر، بل يطفو في فضاء زمني مفتوح، لتُجسّد بذلك حالة من التيه الوجودي.
على المستوى الفني، يعمد النمر إلى تشييد صوره الشعرية بتقنية تتجاوز المباشرة، مُستعينًا بلغة مواربة ومُكثّفة، حيث تنصهر المعاني في صور مركبة تُلامس الوجدان والفكر معًا.
في قصيدة ”علقتين داهمتين“ يضعنا الشاعر أمام مشهد داخلي متأزم، ينهض على صراع مستعر بين العقل والعاطفة، بين الانقياد للمشاعر والتشبث بالمنطق الحاسم.
النص يضجّ بتوتر نفسي يعكس مأزق الذات المعذبة أمام قرارات تتأرجح بين نداء القلب ورصانة الفكر. تتجلى هذه الثنائية في صور حافلة بالرموز، حيث يقول:
”الذكريات الشاحبة“
و
”الشهوة في الزرقة المتضرعة لضوء السماء“
هذه المفردات تحمل ثقلًا دلاليًا يعكس انكسار النفس تحت وطأة الحنين والتردد، في مشهد تتنازع فيه الذات مع ماضيها المضطرب ومستقبلها الغامض.
توظيف الشاعر للألوان «الأبيض والأسود، والزرقة التي تضرع لضوء السماء» يعكس حيرة داخلية تتسم بالعمق الوجودي. هذا التوظيف للرمزية اللونية ليس مجرد زينة بل هو بُعد فني يثري النص ويعمّق أبعاده النفسية.
في هذه القصيدة، يُلامس الشاعر جراحًا عاطفية دفينة، مستعينًا بصور تعكس التعلق الوجداني بأشياء تبدو هامشية لكنها تحمل معاني عميقة في وعي الشاعر.
المشهد الذي يصف فيه طائرًا أسود يحط على عمود كهربائي يفيض بدلالات شتى، فذلك الطائر يتحول إلى استعارة مكثفة تعكس الاستغراق في التأمل، والارتهان إلى لحظة زمنية ممتدة تُغلّفها الوحدة والانتظار.
العبارة: ”لون ينأى بسواد يطير بعيدًا“ تبوح بإحساس عارم بالفقد والتلاشي، حيث يتحول اللون «وهو رمز الوجود» إلى كيان هارب، بما يعزز إحساس القارئ بعزلة الذات التي ترقب بصمت مصيرًا مجهولًا.
إن الحضور القوي لعناصر الزمن والتكرار في النص يضفي عليه طابعًا وجوديًا عميقًا، يعكس قلق الإنسان المعاصر وتعلقه بأهداب الأمل وسط دوامة الفقد والتوجس.
تتخذ هذه القصيدة من القهوة رمزًا معقدًا يمتزج فيه البُعد الثقافي بالوجداني. فالقهوة هنا ليست مشروبًا فحسب، بل هي كيان يحاكي مشاعر الشاعر ويتشابك مع تجاربه الحياتية.
العبارة: ”فنجانها يتلو بيَ المَهلا“ تُكثّف الشعور بالزمن المتباطئ، حيث تصبح القهوة رفيقةً تُعيد للشاعر ذكرياته، وتستحضر أوقات الحيرة والتأمل.
من خلال هذه الصورة، يعمد الشاعر إلى تفكيك العلاقة بين الإنسان والزمن، حيث تُجسد القهوة لحظة سكون تتقاطع فيها التأملات العاطفية بالأسئلة الوجودية.
في هذه القصيدة، يتخذ الشاعر من الطبيعة فضاءً رمزيًا يُعبّر من خلاله عن فكرة الحب والنمو الروحي.
البيت الذي يقول فيه:
”ضحكة الندّ ساق العشق ينبتها / كما التبرعم حتى يكبر العدد“
يعكس رؤية فلسفية عميقة، حيث تتحول الطبيعة إلى مرآة تعكس تجليات الحب بوصفه كائنًا ناميًا، يبدأ برعماً صغيرًا ثم يزدهر ليصبح كيانًا مكتملًا.
النص يتكئ على معجم طبيعي يتناغم مع إحساس عارم بالزمن والتحولات الإنسانية، فالنباتات والزهور تصبح هنا كناية عن المشاعر، تنمو وتزهر لكنها لا تخلو من احتمالات الذبول والفقد.
إن نصوص الشاعر فريد النمر تُبرهن على قدرته الفائقة في استبطان أعماق الذات الإنسانية، حيث تتضافر في تجربته عناصر التأمل الفلسفي، والنزعة النفسية، واللغة الشعرية المرهفة.
الشاعر يتقن توظيف الرمزية والصور المركبة لتشكيل نصوص تنبض بالأسئلة الوجودية والمواقف العاطفية المتأججة. أسلوبه يتسم بالعمق، حيث يُحيل القارئ إلى مستويات متعددة من التأويل، ما يُثري النص ويُضفي عليه هالة من الغموض والتكثيف الفني.
إن تجربة فريد النمر ليست مجرد تجربة شعرية عابرة، بل هي مشروع أدبي تتكامل فيه الأبعاد النفسية والوجودية والفنية، ما يجعل نصوصه محطة تأمل وإلهام في المشهد الأدبي العربي.