آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 7:17 ص

مأذون وقصة

كادت تخسر عريسها

الشيخ محمد الصفار

لقد تغير الزمان، واختلف الناس، وتبدلت الطباع، حتى أن بعض ما نقول ونكتب أصبح من الماضي الذي لا عودة له، فنحن أبناء اليوم، لكنّها قصص حصلت، ولعل فيها ما يفيد.

ذهبت على الموعد إلى منزل عم البنت، وكان خاطبها قد سبقني إليه، فدخلت وسلّمت، ورتبت أوراقي، وبعدها طلبت الإذن في سماع رأي البنت.

كان ترتيبهم أن يجلس الرجال في منزل عمها لأن مجلسه أوسع وأرحب، وتبقى البنت في منزل والدها الملاصق لمنزل عمها.

رافقني والدها إلى منزله حيث العروس، كما رافقنا اثنان من أعمامها وهما الشهود، دخلنا على البنت وهي محاطة بأمّها وأخواتها وبعض أقاربها، أخبرت البنت أن فلانًا ابن فلان جاء طالبًا الزواج منك، وقد أحضر معه المهر وقدره عشرون ألف ريال، وأخبرتها بما أخبرني أبوها من شروطها، ثم سألتها: ”هل أنت موافقة على هذا الزواج؟“

سكتت البنت ولم تنطق بحرف واحد، أعدت السؤال عليها بعد طول انتظار: ”يا فلانة هل أنت قابلة بهذا الزواج؟“ لاحظت أن أمّها تغمزها بيدها، والبنت ملتزمة الصمت، مرّ وقت ليس بالقصير، وأنا واقف أنتظر الجواب، فأعدت السؤال ثالثة، بينما كان أبوها ينظر لها باستغراب وبعض التوتر، ”يا فلانة هل أنت قابلة بهذا الزواج؟“ بقيت البنت محافظة على سكوتها، فقلت لهم: ”يبدو أن البنت غير قابلة، فلا تجبروها، والزوج ليس له نصيب فيها“، وأدرت وجهي هامًا بالخروج.

كان من حسن حظ البنت أن الرجال في منزل عمّها، فكنت بحاجة إلى وقت كي ألبس حذائي وأخرج من المنزل، وأكون مخيّرًا بين أن أذهب إلى منزل عمّها حيث الرجال، أو أتخذ طريقي في مسار آخر.

في هذه الفسحة من الوقت لحق بي أحد أعمامها قائلا: ”لا تستعجل يا شيخ، هناك لبس في الأمر“، أجبته لست مستعجلًا، فطلب مني العودة إلى حيث البنت وأبوها وأمها وباقي من معها.

دخلت عليهم وقد امتلأ وجه أبيها بالبسمة، وتغيّر الجو من الاحتقان والتوتر إلى الهدوء والسكينة، سألتهم ما الخبر؟ قالوا تحدث مع البنت، فاستحسنت الأمر، لأنّي خشيت أن تكون مكرهة، وهذا لا يجوز في الزواج.

بدأت البنت كلامها وهي تقسم بالله أنها قابلة بالزواج وبالمهر، وأن الشروط التي قالها أبوها هي شروطها، قلت لها فما منعك من قول كلمة «نعم» حين كنت أكرّر عليك السؤال: ”هل أنت قابلة بهذا الزواج؟“

فقالت: ”صديقتي المقربة مني أكدت عليّ أن أكون ثقيلة، والا أعطي الموافقة سريعًا“، كنت أود الاطمئنان بأنها ليست مرغمة، فسألتها: ”أتقولين هذا الكلام باختيارك؟“ أجابتني ”نعم والله“، ثم سألتها: ”هل صديقتك متزوجة؟“ أجابتني ”لا“. فابتسمت وقلت لها: ”لقد علمتك فن إتعاب المأذون“.

أخذت توقيعها، وقلت لها: ”لو كان مجلس الرجال لصيقًا بهذا المكان، وكان خروجي من هذا المكان هو دخولي إليهم، ربما تعقد أمر زواجك، وربما خسرت عريسك“.

عدت إلى الرجال وأجريت عقد الزواج للعريسين دون أن أتحدث بما حصل، فالحمد لله الذي تمم لهما بخير.

مستوحيات القصة:

1/ من الأفضل أن يهيئ الوالدان ابنتهما للحظات المهمة، التي تشكل نقلة نوعية في حياتها، لحظة العقد، أول مقابلة مع الزوج بعد العقد، أول دخول على والدي الزوج، طريقة وحدود التعاطي مع أخواته وإخوانه. ومهما كانت ثقة الوالدين بعروسهما فالتذكير ينفع المؤمنين.

2/ مهما سمعت البنت من صديقاتها ورفيقاتها، فإن مشورة العائلة والأسرة لا تُهمل ولا تترك بأي بحال من الأحوال، وعلى وجه الخصوص إذا كانت المشورة مرتبطة بشأن مهم ومفصلي في حياة البنت، فهم أقرب الناس لها وأخلصهم لسعادتها، وأكثرهم اهتمامًا بمستقبلها.

3/ هناك سكوت وتمنّع عن الجواب يكشف عن حياء طبيعي معتاد من الأنثى، وهذا يعرف سريعًا، وهناك تصنّع للحياء، وأحيانًا يكون في غير محله، وهذا النوع قد يكون ثمنه باهظًا.

3/ على المأذون ألا ينقل ما يراه ويلاحظه من ارتباكات وهواجس عند العروس وأهلها، إذا لم يكن لذلك أثر في العقد وشروطه الشرعية، لأن بعض الأمور قد تفسد الأمر، وتعطل العقد، والأفضل أن يسعى لإصلاح ما يمكن كي يجمع بين رأسين بالحلال.

4/ أكثرتُ الملامة على نفسي تلك الليلة، هل كنتُ فعلا مستعجلًا حين هممت بالخروج؟ أم كان بإمكاني أن ألتمس لها عذرا فأقول مثلًا «ربما يمنعك الحياء» أو «خذي وقتك يا ابنتي» أو «لست خارجًا حتى أسمع جوابك».