آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 10:02 م

إفطار بطعم الذكريات

عبد الباري الدخيل *

”الذكريات لا تزال تطرق أبوابنا وتطل من النوافذ“

أحداث كثيرة تمر على الإنسان، ينسى بعضها، ويذكر أخرى، وقد تتكرر بعض الأحداث، لكن لحدث ما وقع خاص وذكرى لا تُنسى.

حتى لو تكرر الحدث نفسه، وفي المكان ذاته، وحتى مع الشخص الأول، قد تكون لتلك الحادثة وقع مختلف في الذاكرة.

ما الذي يجعلنا نعود دائمًا إلى تلك اللحظة؟

هذا هو إحساسي كلما تذكرت أول فطور تناولته مع زوجتي «إبتسام» عندما كنّا مخطوبين، شعور يغمرني بالسعادة، ويدفعني لفتح باب الذاكرة والتجول في حديقتها.

السؤال الذي شغلني كثيرًا: تتكرر الأشياء والأحداث لكن هل يبقى الإحساس نفسه؟ أم أن الذكرى وحدها تجعله مختلفًا؟

كنّا على موعد للذهاب إلى السوق، اقترحت عليها تناول الإفطار في البيت، فقد سافرت أمي وأختي إلى المدينة المنورة للزيارة، ولم يبق في البيت غيري، فوافقت بعد تردد.

لم يكن الفطور مميزًا، لكن كل لحظة فيه كانت مميزة، ابتداءً من الحضور الصباحي الجميل، وليس انتهاءً بالسفرة العامرة بالسعادة.

خرجت من البيت صباحًا، والشمس للتوِ قد استيقظت، والسماء في شهر نوفمبر تتزين عادةً بنتف من الغيوم، والطقس يداعب الوجه والجسد ببرودة دافئة، أخذتها من بيتهم ورجعت لبيتنا وأدخلت السيارة في الكراج، وكالعادة أفتح لها الباب وأنحني قائلًا: تفضلي يا سيدتي.

ما أن فتحت لها باب السيارة حتى سارعت بالارتماء في حضني، ضمتني بقوة، عانقتني طويلًا، وحين بادلتها العناق، أفلتت من بين يديّ قائلة: ”الحين الجيران يشوفنا من نوافذهم“.

تبسمتُ ضاحكًا من قولها، وحاولت الإمساك بها، إلا إنها أسرعت للداخل.

هناك توقفت للحظة خشيتْ أن يراها أحد تدخل بهذه السرعة، فيظن أن حدثًا صار لنا أو بيننا، ما استدعى دخولها بهذه الطريقة..

وقفت خلفها وضحكت: ”لا تخافي ما في أحد“.

قالت جملتها المعتادة: ”نحيس“.

قلت لها: أحب البيض المقلي بالجبن الشرائح.

قالت: لا.. ابتعد عن الجبن ففيه أملاح، ”مو ناقصنك ملح“.

قلت: أنا عسل، هل تنكرين؟!

ابتسمت وذهبت تبحث في أواني الطبخ عن مقلاة، وقالت: ”بطبخ لك بيض بالطماط“.

أخرجت زيت الذرة، فرفضته، وقالت: زيت الزيتون أفضل.

للطعام رائحة ذكية، تهاجم معدتي بخفة واقتدار، إذ تختلط روائح البهارات مع رائحة الطماطم والفلفل الرومي، والكزبرة، وأصوات الملاعق والأواني تزيد من جوعي، وتواجد «إبتسام» يزيد المكان روعة وجمالًا.

وكان الإحساس بروعة اللحظة يجمع بيننا، لم تكن تعدّ الطعام، بل كانت تعزف على أوركسترا موسيقية، تنظر ناحيتي وتبتسم، وتعود للطبخ وهي تردد «رهيب والله رهيب».

ربما «إبتسام» لا تتذكر تلك اللحظة كما أتذكرها. فلكل منّا ذاكرته الخاصة، لكننا نتشارك في تجربة الفطور، الحب، الذكريات.

كل مرة تزورني هذه الذكرى أتوجه للمطبخ، مارًا بقاعة الطعام، أفتح الباب، يواجهني باب آخر للمطبخ الخارجي، وعلى يميني الثلاجة، وعلى يساري الفرن، وتقع المغسلة ودواليب الأواني بعد طاولة الطعام.

لا جديد في المكان، المطبخ نفسه، كما هو، لا يزال هنا، ولم تتغير فيه الأجهزة إلا بالتجديد، رغم ذلك هو ليس كما كان في اللقاء الأول، والذكرى تجعل كل زاوية فيه تنبض بحياة خاصة.

متأكد أنّ الأشياء لا تتغير، فقط نحن من نراها بطريقة مختلفة بمرور الزمن.

كما أني أعددت الطعام وطلبت من زوجتي أن تعد إفطارًا مكونًا من البيض والطماطم، لكن أقصى ما يفعله أن ينقلني إلى الذكرى الأولى، فالحب لا يعيش في تلك اللحظات الفريدة فقط، وإنما يتسلل إلى كل فطور وكل حديث.

يا ترى هل نحتاج إلى أحداث ضخمة كي نعي عظمة اللحظات؟ أم أن البساطة نفسها، مثل فطور عادي في يوم عادي، قد تحتوي على أعمق المشاعر؟

في هذا المطبخ تناولنا أول إفطار بعد الزواج، وأعددت فيه الإفطار لابتسام بعد ولادتها بابننا الأول «سامي»، وساعدتها في إعداد رضعة طفلتنا «زينب»، وعلّقنا معًا صورة أمي - رحمها الله - بجانب ورقة التقويم على باب الثلاجة بعد خمس سنوات من زواجنا، الأيام تسير كسفينة والبحر يبدو بلا نهاية.

كيف تعيد الأيام نفسها، بالرغم من ذلك نرى الأشياء بشكل مختلف؟ ربما هو نفس الإفطار، ولكن كيف لم يكن هو نفسه في تلك اللحظة الأولى؟

بالتأكيد إنه نفس الإفطار، ونفس المكان، وابتسام نفسها، لكنني كلما تذكرت تلك اللحظة، شعرت بشيء مختلف.

هل هو الزمن الذي يجعل كل شيء يبدو أجمل؟

أم أن الذكرى قد أضأت هذه اللحظة بنور خاص؟

في كل مرة نعيش نفس الذكرى، نتغير، وتتغير الطريقة التي نراها بها، فاللحظات تتكرر، لكن الذكريات هي التي تعطيها عمقًا، وربما لا تكمن قيمة اللحظة فيها، بل في كيف نعيشها ونحن نعلم أنها ستصبح ذكرى في وقت ما؟