ذكر الله.. الوسيط الفاعل
في المقالة السابقة تحدثت عن «ذكر الله» بوصفه وسيطاً فاعلًا في النفس والقلب والروح، ويشكل بالتالي نوع «الأنا» ويبلغ بها تمامها، وينعم عليها بطهرها، دون أن تسعى إليه أو تتطلبه.
الخطأ غير المدرك أننا لم نعلم مبكرا أن ذكر الله هو بذاته «وعي» قائم بنفسه، وأنه وحده ينتج «اٌستنارة القلب» ويولد «الطمأنينة» وإن هذه الهبات والعطايا على النفس والقلب مباشرة ودون إبطاء ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: آية 28]. ربما لأن الذكر يتعمد أن يجمع الوعي بشكل دائم بالله. وهذه منزلة من أعظم منازل التبتل وأطهرها في الحس والغيب، وفي الظاهر والباطن، ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل: آية 8] القلب الذاكر تستوعبه غمرات الروح والجمال والجلال التي ينفتح عليها، وتستوعبه وتغمره بتمامه، «يتبتل» أي ينقطع إليه.. انقطاعا كليا بمشاعره كلها، وبأماني نفسه، وشواغل قلبه، ومسارب روحه. هنا وحدة الجمع.. وجمع الشتات. أي لا يوجد منتصف طريق في «فريضة الذكر». «وأقم الصلاة.. لذكري». إنه أبعد من أفق وعينا القديم عن «ذكر الله تعالى». الصلاة هنا تؤدي وظيفة محددة، وهي محض حامل لقلبك إلى مقام الحضرة الإلهية، إلى التجلي والقرب منه أو السعي إليه، وإن الإلحاح والإصرار عليها في مواقيت تمتد على الليل والنهار.. لزحزحة القلب من شواغله إليه، ولجمع شتاته بين يديه..!.
وحين يخبرنا الله تعالى بقاعدة مكافأة ذكره العظمى ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: آية 152].. غاية كل نفس ضعيفة عاجزة ومسلوبة القوة والفعل، ويتردد موتها مع أنفاسها، أن يذكرها ربها وخالقها ومحييها والمنعم عليها بفضله دائما أبدا، ولأن لحظة واحدة، نظرة واحدة، ورحمة واحدة، من الله تكفي وتغني وترحم وتنعم، هذه اللحظة الواحدة قادرة على تكوين «الوعي» ورفعه، قادرة على إدخال القلب في تجربة التجلي. قادرة على جعل الروح تلامس حجابا من حجب النور، وتقترب من حجب الجلال والجمال والعظمة.
الذي يشير إليه القرآن أن العبد غير قادر على التجرد لربه دون قبول الله تعالى له، دون صدق السعي إليه، دون النقاء فيه، الله لا يقترب منه إلا طاهر، ولا يرتفع إليه ظالم، ولا يرتضي حضور اسم من أسمائه في قلب حامل خطيئة لم يتطهر منها. لا نستطيع أن نقترب من الله بدون أن تتكامل الصفات والفضائل فينا، ولن يذكرنا الله قبل طهارة قلوبنا.
القلب منزل يتنزل فيه حضور الله، وهذا يوجب جعله له وحده لا شريك له فيه، ويقتضي بالضرورة طهارته بأعلى درجات الطهارة «من طهر قلبه.. نظر الله إليه». والقلوب الطاهرة هي وحدها التي ينظر الله إليها، ويذكرها.. بلطفه ورحمته ويهديها إلى نوره.. ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ [ص: آية 46].
إذا لا بد من الذكر المستدام الدائم، لا بد من جعل القلب يحمل إمكانية وصول نور الله إليه، رحمته به، عنايته ورأفته وذاك الوعي الذي تختزله «الطمأنينة» وهي تحمل الوعي بتمامه كله.
كل نفس تولد في الظلمة، ترتفع عنها أو تعيش بها، وعليها تموت وشدة الظلمة تعني العمى، والعجز عن الرؤية، في حقائق القرآن.. الغفلة عنه سبحانه وتعالى تعني موتاً، وتعني أنك تحولت إلى أعمى تبصر كل شيء ولا تراه، وتنشغل بكل شيء عنه، وترغب في كل شيء إلا الرغبة في ذكره وقربه.. ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: آية 124-126] هنا الجزاء عبارة عن ظهور الحقيقة الباطنة للنفس، تجلي عمى القلب على البصر، لقد كنت أعمى طيلة عمرك! لقد عشت في الظلمة سنواتك كلها، لقد نسيت ما لا يمكن نسيانه، وغفلت عن ما لا يجوز الغفلة عنه، لقد عشت بذات عمياء مشوهة وناقصة، وحملت قلبا مات بظلمته.. هناك ستنال العمى ذاته..! وستحمل الظلمة ذاتها..! وستنسى لأنك على الدوام لم تطلب منه أن يذكرك من خلال ذكرك الدائم له..
حتى تجد كينونتك أنت مفتقر إلى أن يتجلى الله على قلبك، فيظهر كل صفاته فيه، وحين ذاك ستجده في كل شيء، ومع كل شيء، وستراه متجليا في كل شيء، ولا يحجبه عنك شيء..
وهذا ما يجعلني وإياك ننتهي إلى القناعة أن ذكر الله تعالى هو وسيط فاعل في القلب والنفس والروح وهي جميعا مفاعيل له، وضرورة لا يمكن إهمالها مطلقا.