التاريخ.. من يخطُّه ومن يُخطُّ فيه؟
هل نحن من نكتب التاريخ، أم أن التاريخ هو من يكتبنا؟ أهو سجلٌّ ساكنٌ يستجيب ليد الكتّاب، أم هو قوة حيّة تُملي إرادتها وتفرض أسماءها رغم أنوف السلاطين والمؤرخين؟ سؤالٌ قديمٌ متجدد، تُحاك حوله النظريات، وتتشابك عنده الأفكار، لكنه يظلّ مفتوحًا على احتمالاتٍ أوسع من أن تُختزل في إجابةٍ مباشرة.
ابن خلدون، صاحب العقل الموسوعي والنظر الثاقب، أدرك قبل قرون أن التاريخ ليس مجرد سردٍ للأحداث، بل هو أعمق من ذلك بكثير؛ هو“نظرٌ وتحقيق”، وهو بذلك يميّز بين الخبر المرويّ، وبين الحقيقة التي تسطع رغم محاولات التشويه والإخفاء. فكم من اسمٍ نُقِش على جدران المعابد والمسلات، لكنه اندثر في زوايا النسيان! وكم من روحٍ أُزهقت وسُحِقت في ركام القهر، لكن اسم صاحبها عاد ليُدوَّن بأحرفٍ من نور، لا لأن أحدًا أراد له ذلك، بل لأن التاريخ ذاته لم يجد بُدًّا من الاعتراف به!
في فضاء المجد، لا يتساوى الجميع؛ فثمّة من يتقدّم ليُسطّر اسمه عامدًا متعمّدًا، يلهث وراء خلوده، يُنشئ الخطابات، يُملي الروايات، يُغدق الأموال على المؤرخين، فيُحفر اسمه على الحجارة، لكن هذه الحجارة نفسها قد تُلقي بها الأيام في وادي النسيان، كأنها لم تكن. هؤلاء هم من“يكتبون التاريخ”بأيديهم، لكنهم ينسون أن الزمن لا يحتفظ إلا بما له وزنٌ في ميزان الحقيقة.
وفي المقابل، هناك من لا يلتفت إلى نفسه، ولا يهتم باسمه، ولا يُفكر في“إرثه الشخصي”، بل يُلقي بنفسه في أتون المبادئ، يخوض معارك الفكرة والمبدأ، لا يكترث بالأضواء، ولا يعنيه أن يُذكر اسمه، ومع ذلك، يفرض التاريخ نفسه عليه، لا ليُجامله، بل لأنه لا يستطيع تجاوزه. هؤلاء هم الذين“يكتبهم التاريخ”، لا لأنهم سعوا لذلك، ولكن لأن أثرهم كان أقوى من أن يُمحى.
كثيرٌ من العظماء لم يذكرهم معاصروهم إلا باللعنات، لكنّ الزمن عاد فأجبر نفسه على الاعتذار. غاليليو، الذي وقف متهمًا بالزندقة أمام محاكم التفتيش، لم يسعَ إلى مجدٍ شخصي، لكنه سعى إلى كشف الحقيقة، فطُمس اسمه في حياته، لكنه عاد ليصبح رمزًا لانتصار العلم على الظلام. وسقراط، الذي تجرّع السُّمّ باسم العدالة، لم يكن يريد أن يُذكر، لكنه بقي، بينما محاكموه ذهبوا مع الريح.
ومن الجهة الأخرى، أين أولئك الذين صُنعت لهم التماثيل ونُقشت أسماؤهم على المسلات؟ كم من قائدٍ عسكري، كم من ملكٍ متغطرس، كم من متسلّطٍ صنع لنفسه هالةً وهميةً في زمانه، لكن الزمن أسقطه في هاوية النسيان!
ليس لأنهم كانوا أقوى من الطغاة، بل لأن الفكرة التي حملوها كانت أقوى من سيوف المستبدين. فالمجد لا يُمنح، بل يُنتزع، والتاريخ لا يُشترى، بل يُكتسب بثمن التضحية والإيمان.
خُذ الأنبياء والمصلحين، خُذ الأحرار الذين وقفوا في وجه الطغيان، لم يكن همّهم أن يُخلِّدهم أحد، بل كانوا يؤدّون رسالةً أكبر من أعمارهم، وأوسع من أسمائهم، فبقيت آثارهم رغم أنف التاريخ الانتقائي.
أينجح التاريخ دائمًا في الإنصاف؟ لا. فكثيرون ممن يستحقون الخلود لم يخلّدهم أحد، وكثيرون ممن لا وزن لهم حُفرت أسماؤهم في الذاكرة البشرية ظلمًا. لكن الزمن كالماء، قد يتلوث، قد يُكدر، لكنه في النهاية يجد مجراه الصحيح، فيجرف الأسماء الهشة، ويُبقي على من يستحق البقاء.
لا أحد يكتب التاريخ وحده، ولا أحد يُفرض على صفحاته قسرًا. بل هو تفاعلٌ بين الفعل والنتيجة، بين الإرادة والأثر. فمن عاش للضوء دون أن يسعى إليه، جلبه الضوء إليه، ومن حاول أن يصنع لنفسه وهجًا زائفًا، أفلت شعلته في أول عاصفة.
وهكذا، فإن العظماء الحقيقيين لا يبحثون عن الخلود، لكن الخلود يبحث عنهم.