رمضان.. لهيب الأرواح في أتون الحضرة العلية
بين مواسم الفناء وعطايا الوجود الأول
الزمن في المنظور العرفاني ليس تعاقبًا عدديًا للأيام، بل هو حجابٌ شفيفٌ يُسفرُ عن وجه الحقيقة لمن أُوتي بصيرة الكشف.
فما من لحظة إلا وهي تحمل أنفاسًا إلهية، وما من شهر إلا وفيه سرٌ من أسرار العهد الأول، حيث كان الإنسان في عالم الذرِّ، لم يُثقل بحُجب المادة، ولم تُشوِّه فطرته الأكدار.
ورمضان في هذا السياق هو تجلٍّ فذٌّ للزمن في أبهى حضوره..
زمنٌ يتجاوز العدّ، ليصبح حضرةً، ويخرج من حساب الأيام، إلى مدارج السالكين.
قال الله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: آية 185].
لم يقل ”أنزل فيه الكتاب“، بل قال ”القرآن“، والقرآن في العرفان هو اللوح المحفوظ الذي يُنزّل نغمةً بعد نغمة في قلوب الأنبياء والأولياء.
إنه الشهر الذي يُعاد فيه إنزال النور على هيئة حروف، ويتحوّل فيه الكلام الإلهي من كونه أزليًا، إلى كونه مشهودًا في قلوب السائرين.
كلُّ صائمٍ يسلك درب الصفاء، ينكشف له شيءٌ من القرآن..
ليس القرآن المقروء، بل القرآن المكتوب بنور الفطرة في قلبه..
فتصير الآيات مرايا وجودية يرى فيها السالك وجهه الحقيقي.
قال أمير المؤمنين علي : ”صوم القلب خيرٌ من صيام اللسان، وصوم اللسان خيرٌ من صيام البطن.“ «نهج البلاغة، الحكمة 137».
إنه تقسيم وجودي دقيق:
• صيام البطن: تخلية الجسد من التعلّق بأدنى عوالمه، عالم الشهوة.
• صيام اللسان: تخلية الجوارح من بذور السوء، لتتهيأ لاستقبال البينات.
• صيام القلب: تخلية السرّ من الالتفات لما سوى الله، حتى لا يبقى في المرآة إلا وجهه.
العارفون يُدركون أن رمضان ليس شهر الامتناع، بل شهر الامتلاء..
الامتناع عن الطعام مدخلٌ بسيطٌ، والغاية أن يمتلئ القلب باليقين والشهود.
فكلما فرّغ السالك بطنه ولسانه وقلبه، امتلأ بالنور، حتى يصير قلبه كالكعبة:
”مَنْ أرادَ اللهَ بدأَ بكم ومَن وحّدَهُ قَبِلَ عنكم ومَن قَصَدَهُ توجّهَ بِكُم“ «زيارة الجامعة الكبيرة، مستدرك الوسائل، ج 10، ص 366».
الصائم في العرفان ليس عبدًا ممتنعًا، بل عاشقٌ هائمٌ امتلأ قلبه بالوجد، فلم يعد يشتهي سوى قرب محبوبه.
• كل لقمة تمنعها، قربانٌ لصمتك.
• كل غفلةٍ تُطفئها، صلاةٌ بلا ركوع.
• كل شهوةٍ تكتمها، نفحةٌ من ليالي القدر.
قال العارف الكبير محيي الدين ابن عربي:
”الصيام هو عبادة السّرّ.. لا يطلع عليه أحدٌ إلا الله، فهو بينك وبين محبوبك، كما كان العهد الأول بينك وبينه في عالم الأرواح.“ «الفتوحات المكية، ج 2، الباب الثلاثون».
هكذا يُصبح الصوم لغة العشق، لا لغة التكليف.
الصائم الحقيقي لا يشعر بثقل الجوع، لأنه ممتلئٌ بنشوة القرب، وكلما ازداد جوعه، ازداد وَلَهه، حتى يُفطر على قلب محبوبه.
حديث الإمام الباقر.. الصيام مقام الحفظ الأزلي
قال الإمام محمد الباقر : ”الصيام جُنّة من النار.“ «الكافي، ج 4، ص 87، حديث صحيح السند».
أي نارٍ هذه؟
ليست نار الجحيم وحدها..
بل نار الافتراق، نار البُعد، نار الغفلة، نار التعلّق بما ليس هو.
الصيام حصنٌ يحفظ السالك من نار الفقد، فيبقى في دائرة الأنس مهما تحركت المواسم.
العارفون يدركون أن أعظم العقوبات ليست النار، بل الاحتجاب..
والصيام درعٌ يحفظك من أن تُطرد من دائرة الحضرة.
كل صائمٍ عارفٍ هو سالك، وكل سالكٍ صائمٍ هو عارف:
1. مقام التخلية: تصفية القلب من شوائب الطين.
2. مقام التحلية: ملء القلب بذكر الحبيب.
3. مقام التجلية: انكشاف وجه الحبيب في قلبك، حتى لا ترى إلا وجهه.
قال الإمام الخميني في ”الآداب المعنوية للصلاة“: ”الصيام الحقيقي أن يصوم القلب عن الدنيا، والعين عن الالتفات، والروح عن سوى الله.“ «الآداب المعنوية، ص 345»
رمضان بهذا المعنى هو سُلَّم النور الذي يرتقيه السالك من نفسه إلى ربّه.
• أول درجة: أن تصوم جوارحه.
• الثانية: أن يصوم قلبه.
• الثالثة: أن يُفطر على وجه الله..
وهذا مقام الفناء في الحضرة.
الآية الختامية: الدعاء كبوابة كشف
قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البقرة: آية 186].
في رمضان، تُرفع الحُجب، فيصبح القرب أقرب، والبعد أشدُّ مرارة..
وكلما صدق السالك في دعائه، انفتحت له أبوابٌ لم يعرفها من قبل.
الدعاء في رمضان ليس مجرد طلب..
بل هو كلمة السرّ التي تفتح أقفال الوجود.
• جذورها: الصيام الجسدي.
• ساقها: الصيام القلبي.
• أغصانها: الصلاة والذكر.
• أوراقها: الدموع في السحر.
• ثمرتها: أن تُسلم قلبك لله عاريًا من كل شيء سوى محبته.
كل صائمٍ حقيقي يُدرك أن رمضان ليس مجرد شهر..
بل هو تذكيرٌ بأول لقاء، حين قال الله: ألست بربكم؟
فقالت الأرواح: بلى..
والصيام عودةٌ إلى تلك اللحظة، حين لم يكن بينك وبينه أحد..
حين كنت محض عشق..
رمضان هو دعوةٌ للحبّ الأول..
فهل ستلبّي الدعوة؟