متى يختصك الله برحمته؟!
كل فعل هو فاعله، كل موقف هو صاحبه، فقلوبنا تتسع كما يكبر ويتسع الغصن لما يتسع ما بداخله، وتنضج به حوامله وثماره، في مشهد يتكرر أمام أعيننا غالبا، «في البرازيل» وقف بائع متجول بين يدي موظف البلدية ورجال الشرطة، مسلوبا تائها ضعيفا عاجزا ينظر بعين غير حصينة على دموعه إلى خبزه «الكعك» يترقب انتهابه ومصادرته، جسد ضامر وفقر غالب وذل حاضر.
من يعيش الرحمة في قلبه لا يتصور أعماقها.. ولا يحيط بالضرورة بدرجة النقاء التي تنعكس على لسانه وفعله.. انحنت أول امرأة رحيمة القلب على كعكه المتراكم ورفعت منه ثلاث قطع، وأعطته ثمنها بسرعة، أنصب الحاضرون عليه بأيدي تحمل ثمن خبزه وترفعه من صندوقه!.
سقطت المصادرة، وسقط الضبط، وسقطت العقوبة، وسقطت لحظة الهوان عن ضعيف عاجز، لقد صادف ضعفه وعجزه وفقره، رحماء كانوا بالقرب منه فنال منهم ما يستحق من الرحمة والرأفة والعطية.
كل عاجز يفضح الأقربين منه...!
كل فقير يُخبر عن نفوس أهله...!
كل سائل بصدق حاجة هو نبأ وفاة الكرم والرحمة في الأقربين منه..!
الله سبحانه يصيب برحمته وفضله من يشاء، وهي عبارة نقية منتقاة للدلالة على معناها الذي تبتغيه، لأنها تقصد مرحوما بعينه فلا تخطئه، ولا تتجاوزه إلى غيره، وإليه تنقاد الأسباب مستجيبة، وتغمره الرحمة بالرزق والبركة حتى يفيض منها على الضعفاء والمعوزين من حوله.
إذا استقر قلبك على قسوة فلا تذهب بعيدا عنها حتى ترفعها، إنها عقوبة سامة، لقلة الرحمة فيه، أو لغلبة الظلمة عليه، أو لسلطان الشهوة منه، أو لبعده عن ربه، أو لقلة ذكره، ودائما القلب الذي لا تحضره الرحمة، لا قيمة له عند الله فيعاقبه بالقسوة، ويبتليه بالإعراض عنه.
اغترف لقلبك رحمة في كل يوم،
بعطية تسقي بها ظمأ مستتر بفقره،
أو بدفع غائلة جوع يغالب عجز صاحبه عنه، أو برفع ساقط خذله من حوله بإغماض عيونهم عن ضعفه وحاجته.
رب رحم لك لا يطاوعه لسانه في الطلب منك..
رب صديق محب أذله دينه، رب أعمى بالهم والغم تتحسس يده من يقبض عليها حنانا، وعطية متعففة عن الرياء..!
إن هذه سبل شتى..
يُراد منها في خواتيم العاقبة والمآل أن تُنعم أنت على الضعفاء من حولك، وأن تنالهم عطاياك، وتُسبغ عليهم من نعمتك، وبمقدار الإخلاص فيها ترفعك لنيل قدر من إنسانيتك لن تناله بدونها، ولست ببالغ مرتبة أن يختصك الله برحمته بدونها.
في حقيقة الأمر نفسك تُعطي، وعلى ذاتها تتصدق، وإليها بكل هذا اللطف تُنعم وتحسن. ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: آية 103].
فهي تطهرك من عبادة ذاتك، وتطهرك من عبادة المال، وتطهرك من الداء العضال الشح وهو مرض التعلق المرضي بالمال.
والثابت أن العطاء الصادق النقي هو أعظم سبيل لبلاغ مرتبة الاختصاص بالرحمة ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [آل عمران: آية 74].
هذا منتهى الرغبة وخاتمة السعي أن يختصك الله برحمته..!.
يظهر في علم الحقائق أنك بحاجة إلى أن تحصي لفتات قلبك وتباعدها عن القسوة على كل ضعيف، أو الشماتة بعاجز، أو مخذول وأن تراقب نواياك المستترة، وما تؤول إليه، أن تسقي عذبا يباس عود ضامر، أن تجبر مكسورا بما تسطيعه، وبما تقدر عليه!.
أنصاف رغيف، أو أنصاف حبات تمر.. قادرة على أن تخرجك من العتمة.. وتضيء باطنك.
الظاهر في وعي قلوبنا..
أن لا سبيل إلى النقاء واختصاص الله لك برحمته، ونظره إليك، إلا بالارتفاع إليه بقلبك وقد صيرته رحيما رؤوفا عذبا غذقا.. يروي بعذوبته قلوب المكروبين والمنكسرين من حولك..
وحين إذ..
يغمرك ما لا يوصف بقول ولا تستوفيه عبارة.
وربما نلت رحمة يختصك الله بها..!
وربما كنت منها قريبا.
وربما ختم الله دنياك بها..!.