آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 7:17 ص

قراءة نقدية فنية مستفيضة في قصيدة “أثقلُ ضيف” للشاعر محمد جعفر الحيراني

عماد آل عبيدان

1. العنوان ودلالاته

العنوان“أثقلُ ضيف”يحمل في طياته توتراً درامياً منذ اللحظة الأولى، إذ يوحي بثقلٍ نفسيٍّ وجسديٍّ يفرض نفسه على الذات الشاعرة. فالضيف هنا ليس عادياً، بل هو وجود خانق، متطفل، لا يُرَحَّب به. كما أن كلمة“أثقل”تعزز الإحساس بالعبء والاختناق، مما يهيئ القارئ لنصٍّ مشحونٍ بالمعاناة والصراع الداخلي.

2. التقديم وبناء اللحظة الشعرية

يبدأ الشاعر بمشهدٍ تأمليٍّ فلسفيٍّ قائمٍ على المفارقة بين الفكر والجسد:

“اتَّقدَ فكري؛ لم أَشعرْ بما حولي، فزلَّتْ قَدَمِي…”

هنا نجد ازدواجية بين الاتقاد العقلي والضعف الجسدي، فكلما ازداد الفكر توهّجاً، ارتبكت الخطى. هذه المقدمة لا تُقدِّم الحدث بقدر ما تُلقي بظلاله على القصيدة، لتُهيِّئ القارئ لاستقبال تجربة شاعرية قائمة على الصراع بين العقل والمحنة الجسدية، حيث يحلّ“العكاز”ضيفاً ثقيلاً، فيُجبِر الشاعر على إعادة تعريف علاقته بالزمن والمكان والوجود.

3. البناء الفني والجمالي

أ» اللغة والأسلوب

القصيدة مبنية على خطاب مباشر للعكاز، وكأنه شخصية واعية، تُخاطبها الذات الشاعرة بحوار داخليٍّ مكثّف. هذا الأسلوب الحواري يكسب النصّ بعداً درامياً، حيث نجد حواراً بين طرفين:

• الذات الشاعرة، التي ترفض حالة العجز والاعتماد.

• العكاز، الذي يصبح رمزاً للضعف المفروض، مما يجعله نقيضاً لكل ما يمثله الشاعر من قوةٍ ومجدٍ سابق.

اللغة هنا عالية الفخامة، مشحونة بالصور القوية، والمفردات التي تنتمي إلى حقل دلالي متشابك بين الانكسار والقوة، الألم والتحدي، الظلمة والنور.

ب» الصور الشعرية والمجازات

القصيدة تعجّ بالصور البصرية والوجدانية التي تحمل دلالات نفسية عميقة. فمثلاً:

“أَيُّهَا العُكَّازُ، مَنْ يَمْشِيْ بِمَنْ؟

وَمَنِ انْصَاعَ، وَصَارَ المُمْتَهَنْ؟”

هنا يطرح الشاعر تساؤلاً جدلياً: من القائد؟ ومن التابع؟ هذه الصورة تُمثل لحظة مواجهة ذاتية، حيث يرفض الشاعر أن يكون تابعاً للعكاز، رغم حاجته إليه.

وكذلك في:

“يَا انْهِزَامَاً فِيْ انْهِزَامٍ، أَعَلَى

ثَابِتِ الخُطْوَةِ تَبْدُوْ كَأَغَنْ؟”

يجسد الشاعر العكاز كرمزٍ للانهزامية والانكسار، رغم أنه ظاهرياً يوفر الاستقامة والتوازن، لكنه في الحقيقة ليس إلا وهماً من الثبات.

ج» الرمزية العميقة

العكاز هنا ليس مجرد أداة دعم جسدي، بل هو رمزٌ مزدوجٌ:

1. رمز للعجز الجسدي الذي حلّ بالشاعر، لكنه يأبى الاستسلام له.

2. رمز للقدر القاسي، حيث يجبر الزمن الإنسان على قبول أشياء يكرهها.

ويظهر هذا في:

“مَا أَنَا إِيَّاكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ،

فَجْأَةً لَاقَى بِعَيْنَيْهِ وَثَنْ”

هنا يُجسِّد الشاعر المفارقة الكبرى: العكاز، الذي كان يفترض أن يكون وسيلة للنجاة، بات صنماً يُرغم الشاعر على عبادته، أي الاستسلام له.

د» الموسيقى الداخلية والإيقاع

القصيدة مبنية على البحر الكامل «متفاعلن متفاعلن متفاعلن»، وهو بحرٌ ذو إيقاعٍ قويٍّ يتناسب مع الحالة الشعورية المتوترة التي يطرحها النص.

كما أن استخدام الجناس والتكرار يعزز الموسيقى الداخلية، مثل:

•“وَبِمَنْ لَاذَ بِمَنْ”

•“يَا مَزِيْجَاً مِنْ قُنُوْطٍ وَدُجَىً، وَبَقَايَا مِنْ حُطَامٍ وَبَدَنْ”

هذه التكرارات تُعزِّز من نبرة الانفعال والرفض التي تسيطر على القصيدة.

4. التحوّل في البناء النفسي

القصيدة لا تسير بخطٍّ شعوريٍّ واحد، بل تتصاعد نفسياً في عدة مراحل:

1. الرفض والاستنكار «في المقطع الأول»: حيث يُحاول الشاعر إنكار أهمية العكاز ورفضه كجزء من كيانه.

2. الوصف التهكمي القاسي «المقطع الثاني»: حيث يصف العكاز بصفات سلبية تجعله أشبه بعالةٍ على الإنسان.

3. الاعتراف بالمأساة «المقطع الثالث»: حيث يتجلّى وعي الشاعر بحقيقة أن العكاز صار جزءاً من حياته، رغماً عنه.

4. الانفجار الوجداني والحنين للماضي «المقطع الأخير»: حيث يذكّرنا بأسلوب امرئ القيس حين يبكي مجده الضائع.

يقول الشاعر:

“أَنَا كُلُّ الحُبِّ، والحُبُّ أَنا،

وَطَنٌ ذَابَ بِأَحْضَانِ وَطَنْ”

هنا يعود إلى ذاته، إلى مجده، لكنه مجدٌ مُهدَّدٌ بالحسرة على الماضي.

5. المقارنة مع الأدب العربي التقليدي

هذه القصيدة يمكن وضعها في سياق الشعر الفلسفي التأملي، حيث نجد فيها صدى لقصائد المعاناة في التراث العربي، مثل:

• قصائد المتنبي في الصراع بين القوة والضعف، خاصة في قوله:

إذا غامرتَ في شرفٍ مرُومِ… فلا تقنعْ بما دونَ النّجومِ

• قصائد المعري في فلسفة العجز والمصير المحتوم.

لكن الحيراني يتميز هنا بأسلوبٍ أكثر حداثةً، حيث يتجاوز الوصف الحزين إلى التهكم والسخرية، ما يجعل النص متمايزاً عن مجرد الرثاء الذاتي.

6. الخاتمة والتقييم

قصيدة“أثقلُ ضيف”تُعدّ عملاً فنياً متكاملاً، يجمع بين القوة اللغوية، والعمق الرمزي، والبناء النفسي التدريجي، مما يجعلها نصًّا ثرياً، لا يقتصر على الشكوى من العجز، بل يتجاوزه إلى نقد الزمن، والقدر، والضعف الإنساني نفسه.

الشاعر هنا لم يكتب عن العكاز كأداة، بل كقدرٍ محتوم، كخصمٍ يُجبره الزمن على مصاحبته رغمًا عنه، لكنه في النهاية يظلّ يقاومه بالكلمة والشعر، في معركةٍ بين الكبرياء والواقع.

قصيدة شاهقة، تستحق الوقوف عندها طويلاً.