آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 7:17 ص

الفيلسوف وإعادة بناء المعرفة

الشيخ زكي الميلاد * مجلة أفق

مهما تعددت التصورات وتنوعت التحليلات وتكاثرت في الإجابة عن سؤال: من هو الفيلسوف؟ ما صورته وحقيقته؟ وكيف نتلمس وجوده وحضوره الفعلي؟ مع كل ما يمكن أن يطرح في هذا الشأن من تصورات وتحليلات متقاربة أو متباعدة، يبقى أن هناك جانبا أساسيا يمكن الاتفاق عليه، إذ يقربنا من صورة الفيلسوف وحقيقته الفعلية، ويتعلق هذا الجانب بالمعرفة، ويتحدد في ناحية القدرة على إعادة بناء المعرفة، بما يعني أن الفيلسوف هو الذي ينهض بمهمة تكون في مستوى إعادة بناء المعرفة في عصره.

بهذا المعنى فإن الفيلسوف من ناحية المهمة، هو الذي ينهض بأكبر مهمة على مستوى المعرفة، تلك التي لا يقترب منها بجدارة غيره، ولا يقوى عليها غيره، ولا يفكر فيها غيره، ولا يسعى إليها غيره، ولا يثق بها غيره. وهذه الثقة بهذه الدرجة العالية لا يمتلكها إلا شخص الفيلسوف، وتمثل له أقوى دعامة روحية وفكرية يرتكز عليها في المضي نحو هذه المهمة، ومن دونها لا يسير في هذا الدرب ويقطعه إلى نهايته.

ليس من السهولة الوصول إلى هذه الثقة التي لها هيبتها ورهبتها، ومن قواعدها وشروطها أنها لا تتحقق بطريقة سريعة على هيئة قفزات أو طفرات، ولا بدفعة واحدة على صورة ضربات الحظ، ولا بتأثير قوى خفية على شكل خيالات أو إلهامات، وإنما تتحقق باكتساب القدرة، وتأخذ مداها الزمني الذي يتوالى ويتصاعد مع مرور الوقت، حتى تصل إلى درجة تنتقل فيها هذه الثقة من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل.

هذه المهمة العظيمة والثقيلة المتمثلة في إعادة بناء المعرفة، ليس لها صورة أحادية تعرف بها وتقتصر عليها، بل لها صور متعددة، فتارة تجري بطريقة تغيير الأسس، بمعنى أن المعرفة قد تسير وفق أسس معينة في زمن، فيجري تغيير هذه الأسس في زمن آخر، على طريقة ما حدث للمعرفة في العصر اليوناني القديم مع الفيلسوفين الشهيرين أفلاطون «427 - 348 ق. م» وأرسطو «384 - 322 ق. م»، فبعدما كانت المعرفة تسير وفق الأسس المثالية التي وضعها أفلاطون، تغير مسارها تاليا نحو الأسس العقلية التي وضعها أرسطو. وهكذا على طريقة ما حدث للمعرفة في العصر الأوروبي الحديث بين الفيلسوفين الألمانيين هيجل «1770 - 1831 م» وماركس «1818 - 1883 م»، فالأول أقام فلسفته الديالكتيكية على أسس مثالية، ثم جاء الثاني وأقام هذه الفلسفة الديالكتيكية على أسس مادية.

وتارة ثانية، يجري إعادة بناء المعرفة بطريقة القطيعة المعرفية مع معرفة قديمة وإحلال معرفة جديدة مكانها، على طريقة ما حدث للمعرفة في أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي حين جاء فرنسيس بيكون «1561 - 1626 م» بكتابه «الأورجانون الجديد» معارضا به الأورجانون القديم لأرسطو، داعيا إلى إحلال المعرفة التجريبية مكان المعرفة القياسية النظرية القديمة، مغيرا بذلك مسار المعرفة في عصره وما بعده.

وتارة ثالثة، يجري إعادة بناء المعرفة بطريقة الجمع بين الاتجاهات المعرفية المنفصلة والمتغايرة، ومحاولة التوفيق في ما بينها ضمن إطار معرفي مركب، وتوليد معرفة جديدة. وذلك على طريقة ما صنعه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت «1724 - 1804 م» الذي جمع بين الاتجاهين البارزين والمتباعدين في عصره، الاتجاه التجريبي الذي يربط المعرفة بالحس، والاتجاه العقلي الذي يربط المعرفة بالعقل، مولدا اتجاها جديدا يربط المعرفة بالحس والعقل معا.

وهكذا على طريقة ما صنعه الفيلسوف الإيراني صدر الدين الشيرازي «ت: 1050 هـ» الذي شكل معرفة جديدة جمع فيها دمجا وتوفيقا بين الاتجاهات الفلسفية الكبرى المعروفة في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وهي: الإشراقية والمشائية والعرفانية والكلامية، مولدا فلسفة جديدة، مطلقا عليها تسمية ”الحكمة المتعالية“، وهي الفلسفة التي بقيت وما زالت تحافظ على وجودها وسيادتها إلى اليوم.

هذه بعض الصور والنماذج عن محاولات لإعادة بناء المعرفة، حدثت في أزمنة متعددة قديمة وحديثة، وجرت في مجتمعات متنوعة أوروبية وإسلامية، وتعلقت بفلسفات ومعارف مختلفة مثالية ومادية، حسية وعقلية، إشراقية ومشائية، عرفانية وكلامية، ونهض بهذه المهمة الثقيلة فلاسفة كبار في عصورهم، تمكنوا من تغيير مسارات المعرفة، وتركوا أثرا باقيا بات يؤرخ له في سياق تطور الفكر الإنساني.

وقد تواصلت هذه المحاولات على مستوى حركة المعرفة ولم تتوقف، وفي هذا النطاق، وتأكيدا لهذا المنحى وتطبيقا له، يمكن الإشارة إلى ثلاث محاولات جادة جرت في هذه الأزمنة المعاصرة، عدها أصحابها وبكل ثقة، أنها تندرج في إطار إعادة بناء المعرفة في جانب من جوانبها الإنسانية. وهذه المحاولات وبحسب تعاقبها الزمني هي:

المحاولة الأولى: نهض بها في أواخر عشرينات القرن العشرين الدكتور محمد إقبال «1294 - 1357 ه/ 1877 - 1938 م» الذي أعد سبع محاضرات ألقاها في ثلاث مدن هندية هي: مدراس وحيدرآباد وعليكرة، وجمعها لاحقا في كتاب صدر بالإنجليزية مطلع الثلاثينات، وعرف في ترجمته العربية الصادرة سنة 1955 م بعنوان: «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، وعرب عنوانه الدكتور عبدالله العروي حين أشار إلى ترجمته الفرنسية الصادرة سنة 1955 م، بعنوان: «إعادة تركيب الفكر الإسلامي»، ويصح أيضا تعريبه بعنوان: «إعادة بناء الفكر الإسلامي».

وحين أوضح إقبال ما أراده من هذه المحاضرات، ذكر في مقدمة الكتاب أنه حاول بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديدا، آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة، مقدرا أن ليس بعيدا ذلك اليوم الذي يكشف فيه كل من الدين والعلم اتفاقا متبادلا بينهما، لم يكن حتى ذلك الوقف منتظرا. معالجا ضمن هذا النطاق قضايا ومشكلات لها علاقة بالدين والعلم والفلسفة.

وتأكيدا لأهمية هذه المحاولة، رأى صاحب فلسفة الجُوانية الدكتور عثمان أمين «1905 - 1987 م» أن ما حاول إقبال القيام به في تاريخ الفكر الإسلامي شبيه من بعض وجوهه بالذي حاول القيام به كانت في الفكر الغربي. ورأى الباحث اللبناني الدكتور ماجد فخري «1923 - 2021 م» في حديثه عن هذه المحاولة، أن ما قام به إقبال لم يبلغ شأوه أي مفكر في القرن العشرين من ناحية إعادة النظر في المشكلات الإسلامية الأساسية في ضوء اعتبارات حديثة.

المحاولة الثانية: نهض بها في مطلع سبعينات القرن العشرين المفكر العراقي السيد محمد باقر الصدر «1353 - 1400 ه/ 1935 - 1980 م»، وكشف عنها في كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء»، الذي حاول فيه بحسب قوله: «إعادة بناء نظرية المعرفة على أساس معين»، ساعيا إلى دراسة الدليل الاستقرائي على أساس مذهب ثالث في نظرية المعرفة، مطلقا عليه تسمية ”المذهب الذاتي“، وعده اتجاها جديدا في نظرية المعرفة يختلف عن الاتجاهين التقليديين السائدين، وهما: المذهب العقلي والمذهب التجريبي، منتهيا في دراسته ومبرهنا على أن العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن الفصل بينهما.

وتعظيما لأهمية هذه المحاولة، رأى الدكتور عبدالكريم سروش أنها مثلت أول أثر «يصدر من يراع عالم وفقيه مسلم طوال التاريخ الإسلامي، يتناول واحدة من أهم المسائل المصيرية في فلسفة العلم والمنهج المعرفي العلمي، تعاطاها المؤلف ببصيرة وإحاطة كاملة، ترافقت مع عقل وآراء حكماء الشرق والغرب والتعامل معها نقديا».

المحاولة الثالثة: نهض بها في المجال الغربي في منتصف ثمانينات القرن العشرين، المفكر الألماني يورغن هابرماس، وأبان عنها في كتابه «القول الفلسفي للحداثة»، وفي ترجمة أخرى «الخطاب الفلسفي للحداثة»، الذي حاول فيه بحسب قوله: «إعادة بناء القول الفلسفي للحداثة خطوة إثر خطوة، ومنذ نهاية القرن الثامن عشر»، معتبرا أن هذا القول جعل من الحداثة موضوعا فلسفيا.

في هذه المحاولة، انطلق هابرماس من قضيتين إشكاليتين معاصرتين، الأولى تتعلق بالحداثة نفسها والتي عدها مشروعا لم ينجز أو لم يكتمل، والثانية تتعلق بتيار ما بعد الحداثة وما أثاره من إشكاليات صارمة وجذرية في وجه الحداثة، امتدت آثارها ووصلت إلى موطنه ألمانيا. من هنا اتجه هابرماس إلى إعادة بناء الحداثة دفاعا عنها، وتمسكا بها، وانتصارا لها، متخذا من الفلسفة أساسا قويا وصلبا في عملية إعادة البناء.

من هذه المحاولات الثلاث وغيرها، تتكشف لنا تطبيقيا صورة الفيلسوف من ناحية المعرفة، فهو الذي ينهض بأكبر مهمة على مستوى المعرفة، ويضع نفسه في هذا الموضع الرفيع والثقيل، ويعلن عن قدرته على إعادة بناء المعرفة في عصره.

أفق، لبنان، دورية شهرية، تصدر عن مؤسسة الفكر العربي، 1 فبراير 2025 م، العدد 161
كاتب وباحث سعودي «القطيف»