النوافذ: بين الرؤية والغياب
ليست النوافذ مجرد فراغاتٍ في الجدران، بل هي نقاط تقاطعٍ بين الداخل والخارج، بين الذات والعالم، بين الرؤية والغياب. إنها ليست مجرد وسيطٍ بصري، بل كيانٌ فاعل يسبق وعينا بالزمن، كما لو أنها تعي الحركة قبل أن تحدث، وتدرك العبور قبل أن يُفكر فيه العابرون.
حين نقف أمام نافذة، نظن أننا من يختار النظر، لكن الحقيقة أن النافذة كانت هناك قبل قرارنا، تنتظر، تسبقنا بخطوة، كأنها تمتلك وعيًا خاصًا لا يحتاج إلى موافقتنا. النافذة ليست شاهدةً فقط، بل هي جزءٌ من عملية الإدراك، فهي التي تحدد ما يمكن رؤيته، وما سيبقى مستترًا. هل نرى المشهد عبرها أم أنها تفرض علينا زاوية الرؤية؟
في علاقتها بالزمن، تتصرف النافذة كأرشيفٍ للذاكرة؛ إنها تحفظ آثار العابرين، لكنها لا تتوقف عندهم، تظل مفتوحةً لاحتمالات أخرى، لأعينٍ لم تأتِ بعد، ولرياحٍ لم تحمل بعدُ حكاياتها. إنها تنغلق قبل أن نقرر، وتفتح أبوابها قبل أن نستعد، كأنها تسير وفق منطقٍ لا تحكمه إرادتنا، بل تحكمه قوانين الحركة والتبدل، حيث كل انغلاقٍ هو وعدٌ بلقاء جديد.
أما حين تمر العاصفة، فالنوافذ تتصرف بطريقةٍ تفوق وعينا بالزمن. نحن نظن أن الحدث يقع في اللحظة التي نعيه فيها، لكن النافذة تدركه قبلنا، تتفاعل معه كأنها تنتمي إلى مستوى زمنيٍّ آخر، حيث الزمن ليس خطيًا كما نتصوره، بل هو موجاتٌ تتداخل، تتكرر، وتتجلى في كل مرةٍ بشكلٍ مختلف.
والأكثر إثارةً للتأمل هو علاقتها بالغياب. حين نغلقها، نظن أننا نحجب العالم، لكننا في الواقع نحبس أنفسنا. النافذة لا تختفي حين تنغلق، بل تظل هناك، صامتةً، شاهدةً على العزلة التي اخترناها لأنفسنا. هي لا تحتاج إلينا لنثبت وجودها، لكنها تفرض وجودها علينا، سواء نظرنا من خلالها أو تجاهلناها.
ففي نهاية الأمر، النوافذ ليست مجرد فتحاتٍ معمارية، بل استعاراتٌ فلسفية.