رحلة في القيمة الروحية والأخلاقية خلال شهر رمضان
إذا كانت الأيام تمضي في دورتها الرتيبة، فإن شهر رمضان انفصامٌ عنها، واستثناءٌ من عاديات الدهر، ينثال على القلوب كالمزن، فيحيي موات الأرواح، ويعيد للنفس بهاءها الأول. إنه ليس شهرًا كغيره من الشهور، بل نافذة مشرعة على فضاء النقاء، وميدانٌ رحبٌ تتجلى فيه القيم الروحية والأخلاقية في أبهى صورها.
إن أول ما يطالعك في هذا الشهر، هو ذلك الانقطاع عن زخارف الجسد والتفاتة الروح إلى عليائها. الصيام ليس جوعًا وعطشًا، وإنما هو تصعيدٌ للنفس فوق شهوانيتها، وانعتاقٌ من أسر المادة إلى أفق الصفاء. إنّه انصهارٌ في بوتقة التزكية، حيث يغتسل القلب من أدرانه، ويسترد الإنسان فطرته الأولى، خفيفًا من الأهواء، صافيًا من الكدر.
وفي هذا الانضباط النفسي سرٌّ عظيم؛ فهو لا يعلّم الإنسان الصبر فحسب، بل يروي فيه شجرة التقوى، فيصبح أكثر وعيًا بذاته، أشدّ مراقبةً لأفعاله، وألصق بمعاني السموّ الأخلاقي. إنّه تجربة روحية تُجلي مرآة القلب، فيرى الإنسان ضعفه، ويُدرك أنّ القوة الحقيقية ليست في الامتلاك، بل في التخلّي.
ما إن يحلّ رمضان حتى تسري في النفوس رقةٌ لا عهد للناس بها في غيره، فيبدو الكون وكأنّه قد غسل أدرانه، وأبدل صخبه سكينة، وجفائه مودة. لا عجب، فالصيام يُلين جلودًا أقساها الترف، ويوقظ قلوبًا خدرها الاعتياد، حتى تستشعر آلام الجوعى والمحرومين.
إنّها لحظة فارقة حين تمتدّ يد الغني إلى يد الفقير لا منّةً، بل امتنانًا لفرصة العطاء، وتتهادى الأطباق بين الجيران، ويتراحم الناس في مظاهر من التكافل لم يعهدوها من قبل. وكأنّ القلوب قد أُعيد تشكيلها في أتون الصيام، فأصبحت أكثر إحساسًا بمعنى الأخوّة الإنسانية، وألصق بجوهرها الأول: الرحمة.
في رمضان، يتعلّم الإنسان فنّ المقاومة؛ مقاومة الجوع، مقاومة الشهوة، مقاومة الكلمة الجارحة، مقاومة الانفعال. إنّه مدرسة للصبر، حيث تدرك النفس أنّها قادرة على التحكّم في نزواتها، وأنّ الجسد خادمٌ للروح، وليس العكس.
وفي هذا التمرين اليومي على التحمّل، تنمو بذور الإرادة، فيتدرّب القلب على كبح غضبه، واللسان على حراسة أقواله، والجوارح على ضبط نوازعها. ومن كان صبورًا في صيامه، صبورًا على جوعه، كان أحرى أن يكون صبورًا على أقداره، ثابتًا أمام عواصف الحياة.
وكيف يُذكر رمضان دون أن يُذكر القرآن؟ إنّه شهرٌ ترتّل فيه الأرواح آيات النور، فتهتدي، وتسمو، وتنجلي عنها ظلمات الشك والتوهّم. في هدأة الليل، حين يسجد العابدون، ويتلون كلمات السماء، تشعر الأرواح بأنّها تسبح في ملكوت آخر، حيث تنحسر أوجاع الحياة أمام وهج الطمأنينة، وتتهدّم أسوار القلق تحت مطارق الذكر والتدبّر.
إنّها لحظة تتجلّى فيها الحكمة الإلهية؛ حين يُدرك الإنسان أن العطش الأكبر ليس عطش الجسد، بل عطش الروح، وأنّ السعادة الحقيقية ليست في امتلاء البطون، بل في امتلاء القلوب باليقين.
رمضان ليس مجرّد أيام معدودات، بل هو رحلة إلى الداخل، رحلةٌ يخلع فيها الإنسان أردية العادة، ويُمعن النظر في ذاته، ليعيد اكتشاف جوهره. إنّه موسمٌ تُزهر فيه القلوب، وتفيض الأرواح بالضياء، وتنصهر في بوتقة الأخلاق، لتخرج من بعده أكثر إنسانية، أكثر صفاء، وأقرب إلى حقيقة الوجود.
وما أعذبها من رحلة، تلك التي تأخذنا من زحام الحياة إلى سكينة الإيمان، ومن قسوة المادة إلى رحابة الروح، ومن تشتّت الدنيا إلى وحدة اليقين!