آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 7:17 ص

القديحُ تكتبُ وفاءَها على صفحاتِ التراب

عماد آل عبيدان

حين تهبُّ الريحُ، ويهطلُ المطرُ، تصافحُ الأرضُ السماءَ بندى الطُّهرِ والنقاء، غيرَ أنَّ الأرضَ التي تحملُ في أحشائها أسرارَ الذين مضوا، تحتاجُ لأيدٍ حانيةٍ تُعيدُ إليها سكونَها ورونقَها، تُلملِمُ أشتاتَ القبورِ التي بعثرتها الأمطارُ، وتُعيدُ إليها مهابةَ المكانِ وجلالَ الذكرى.

في القديح، حيثُ الوفاءُ نقشٌ على القلوبِ قبلَ أن يكونَ حجارةً تعيدُ بناءَ المقابرِ التي تأثَّرت بعناقِ السُّحبِ الثقيلة، تنطلقُ حملةٌ مجتمعيةٌ تُعيدُ رسمَ ملامحِ الاحترامِ لتلك الأرواحِ التي كانت يومًا تنبضُ بينَنا. حملةٌ ليستْ مجرَّدَ جهدٍ عابرٍ، بل هي رسالةٌ تُسطِّرُها الأيدي البيضاءُ بأنَّ العنايةَ بالموتى امتدادٌ لبرِّ الأحياءِ، وأنَّ الوفاءَ لا ينقطعُ بانقطاعِ الأنفاسِ، بل يتجلَّى في صمتِ القبورِ ورعايةِ أضرحتِها.

تتضافرُ الجهودُ، رجالًا يُعيدونَ البناءَ بحجارةِ الإخلاص، ونساءً ينسِّقنَ وينظِّمنَ المسيرَ بحكمةِ العطاء. هيَ صورةٌ نقيةٌ تعكسُ جوهرَ المجتمعِ حين يلتئمُ على مائدةِ الخير، وتصبحُ الأيدي التي تُعيدُ ترميمَ القبورِ هي ذاتُها التي تبني جسورَ المحبَّةِ بينَ القلوب.

وما أجملَ أنْ يكونَ العطاءُ موثَّقًا بشهادةِ تقديرٍ، لكنَّ الشهادةَ الأسمى تظلُّ محفورةً في كتابِ الحياةِ، حين يُنقشُ اسمُ المتطوِّعِ في ذاكرةِ الأثرِ الطيِّب، في دعاءِ عابرٍ بينَ شواهدِ القبورِ، وفي دمعةِ امتنانٍ تسقطُ بصمتٍ على ترابٍ عادَ إليه بعضُ بهائهِ بفضلِ أيادٍ آمنتْ بأنَّ الإحسانَ لا يميِّزُ بينَ الأحياءِ والموتى.

في القديح، لا يموتُ النُّبلُ، ولا تُهملُ القبورُ، لأنَّ الأرواحَ الطيِّبةَ تُعيدُ للترابِ هيبتَه، وللسماءِ عطرَ الوفاءِ الذي لا ينتهي.