بعض الحيل الدفاعية البشرية
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ﴾ [التحريم: آية 3].
سألني أحد الأصدقاء عن تفسير وسِرْ الرّاحة النفسية عند الفرد عندما يروي بعض الأحداث المرتبطة بحياته الشخصية.
ثمة تفسيرات عديدة هنا تحكم الموضوع، لا يمكن التعويل على تفسير واحد منها لتفسير كل الأحداث.
أول هذه التفسيرات هو: أنه ربما تأتي الراحة النفسية، جرّاء تذكر الماضي والأماكن التي كان يعيش فيها الفرد خصوصاً، بما كانت تحتويه من مشاعر طفولية جميلة وملونة وممتعة، وشقاوة الطفولة وألعاب ومرح الطفولة، يعيد الفرد إلى حيث ذلك الجو الممتع الجميل، فالعودة إليه «خيالياً» يبعث في النفس نوعاً من الراحة المؤقتة.
وقد تكون الراحة نابعة من كونه انتصاراً لشخصيات محددة يعتقد أنها كانت مظلومة، وربما يكون هو واحدُ منهم... أو انعكاس شعور التغلب والانتصار، وأخذ الثأر من شخصيات كانت «من وجهة نظره» ظالمة ظلمته، أو ظلمت أحد أقاربه، أو أسرته، أو خاب أمله فيها.. لم تكن أهلاً للثقة.
وربما يكون الكاتب أو المتحدث قد روى الأحداث خلاف ما جرت عليه.. وتدخل فيها من حيث الزيادة، أو النقيصة.
أو ربما تدخل في ترتيب الأحداث، فلعب في تقديم حدث على آخر؛ مما يؤدي إلى الانتصار إلى شخصه.
وربما جاء بالأحداث ناقصة لكي يتجنب الإحراج من المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه.
وتتعدد هذه الجوانب، وهو ما يشير إلى تعقد النفس الإنسانية، وتصرفاتها في الأحداث والمشاكل، إلى درجة أننا لا يمكن أن نضع قانوناً بشرياً يحكم جميع التصرفات البشرية.
السؤال هنا: هل لهذا الإبداع «إن أسميناه إبداعا» وهل لهذا التدخل في رواية الأحداث اسم معين؟
«بلغة أخرى» ماذا يمارس الكائن البشري بالضبط؟
«الجواب» إذا روى الفرد رواية عن نفسه وأخفى بعض التفاصيل «المعالم» فهو هنا. أما أنه يمارس الكبت على نفسه في إخفاء بعض ما يشعر به من ألم، أو أنه يخفي ما هو مخرج له من الناحية الاجتماعية... المشكلة أنه يحدث «في كثير من الأحيان» أن يمارس الفرد «ذكرا كان أو أنثى» هذا التشويه للقصة أمام الأخصائي أو المعالج الذي يحاول مساعدته.
والأخطر من ذلك هو أن يمارس الفرد تشويه ما جرى من أحداث على صورة معاكسة لما جرى كل ذلك، وتسمى عمليات الدفاع عن الذات أو الحيل الدفاعية.
ولا نسميه كذباً.. لأننا لسنا في صدد إصدار حكم قيمي.. بقدر ما هو تأمل، وتعلم، ووصف، لحال النفس البشرية وتصرفها تجاه الأحداث والمخاطر المحدقة بها.
وأصبح الحالة أخطر عندما يجري هذا الخداع وهذا التشويه للحقيقة والواقع لا شعورياً.
والغارب كبير عندما يجري الأمر بشكل شعوري، فهو يمارس ذلك وهو يعلم أنه يقول خلاف الواقع.
لكن الفرد هنا يتحدث عما جرى بخلاف الواقع وهو مصدق لذاته ويشعر بشيء من الانتصار والراحة النفسية كونه روى الحادثة بهذه الطريقة، وقد صدقه الناس.
لكن ذلك لا يصمد عندما يفصح اللا شعور عن ذلك وهو ما مارسه «وقام به» عالم النفس فرويد في جلسات التداعي الحر ليكشف حقيقة ما يعاني منه بعض المرضى.
سيجموند فرويد يرى أن معظم الجهاز النفسي موجود في اللاشعور، وهو يحوي ما هو كامن ويصعب استدعاؤه، لأن قوى الكبت تعارض عملية استدعاء هذه الخبرات من اللاشعور.
ويرى أن المكبوتات تسعى إلى شق طريقها من اللاشعور إلى الشعور عن طريق الأحلام.
وعالج بعض المرضى عن طريق التخاطب مع اللاشعور، والإفصاح عنه حتى لو كان مؤلما.
وذلك عن طريق أحد أساليب فرويد شهرة، وهو أسلوب التداعي الحر.
والحقيقة أن الله أودع في الإنسان مجموعة من القدرات العقلية والجسمية وأعطاه الحرية في التعامل فيها مع جميع الظروف والأحوال ومواجهة المشكلات جميعها.
إن جميع عناصر الحياة مسخرة تحت أمر هذا الإنسان، ليعيش بسلام مع جميع ما يحيط به من أشياء خصوصاً ما يتعلق منها بالبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها.
لذلك أصبح من نافل القول أن نعتقد بأن الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين يواجهون الكثير من الصعوبات في جميع محطات العلاج النفسي والاجتماعي مهما امتدت خبرة هذا المعالج.
من هنا أصبح الحديث مقبولاً في عدم الاكتفاء بالتقسيمات المقولبة للأمراض النفسية، خصوصاً من أولئك الأخصائيين المحترفين من خارج الطب النفسي.
لو تسنى لنا الاطلاع على تسجيلات بعض الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين في الجلسات العلاجية «العيادية» لوجدنا العجب العجاب من خلال التشخيص فالتشخيص لدى الأخصائيين المحترفين، لا يمكن أن يأتي في جلسة واحدة فلربما خرج الأخصائي بتشخيص أول، وتشخيص ثاني، وتشخيص ثالث ورابع. فما الذي يجري في هذه الأثناء؟؟ مع أن المريض واحد، ويختلف التشخيص من جلسة إلى أخرى، وفي أحسن الأحوال نجد أن الأخصائي سجل مجموعة من الاحتمالات لحالة واحدة، لذلك وبالرغم من التقدم الواسع في العلاج العقلي السلوكي إلا أنه جاء قسم من العلماء من يدعو إلى تغيير قالب صياغة الحالة المعمول بها حالياً، والذهاب إلى مصطلح أكثر مرونة وملائمة للحالات الإنسانية المعقدة أطلق عليه في ذلك الوقت فهم الأشخاص في سياق مشكلاتهم.
”Understanding persons in the context of their problems. UPCP“
ويندي درايدن [1]
ومن أهداف المقال الإطلالة على بعض الحيل الدفاعية التي يستخدمها الإنسان للدفاع عن ذاته، عندما تواجهه الصعوبات،
وهذه أهم ميزة عند الإنسان، وهو القدرة على الظهور بشكل مخالف للواقع الذي يعانيه أو يعايشه.
وليس من مسؤولي الأخصائي النفسي أو الاجتماعي الحفر عن أغوار الجروح العميقة، التي يود العميل سترها، إلا بما يساعد على علاجه.
يستخدم الأخصائيون الأساليب العلمية والعلاقات المهنية، متكئين على تراث عظيم من النظريات والأساليب لمساعدة العميل، على فهم ما يجري في داخله وفهم البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها.
وأهم ما في هذه الأساليب أنها تحاول إشراك العميل في وضع يده على المشكلات التي يعاني منها.
سنلقي بعض الضوء على بعض ردود الفعل البشرية تجاه المشكلات التي يتعرضون لها.
العدوان موضوع كبير، وكثير التفاصيل ولكن اختصارا نقول إن العدوان بحسب بعض العلماء هو رد فعل قوي تجاه الإحباط. فإما يكون العدوان تجاه من يسبب العدوان للفرد ويسمى «حينئذِ» المباشر، أو قريباً لمن سبب العدوان، ويسمى حينئذ بالعدوان المزاح فالمعلم يحبط من المدير، فيوجه عدوانه نحو الطلبة، والمرأة تحبط من زوجها، فتوجه عدوانها على الأطفال وتقسو عليهم.
الخطير في موضوع العدوان هو أنه إذا انعكس كاستجابة تجاه الذات وهنا ينبغي تدريب الأفراد على استراتيجية «توقف، تفهم، فكر قليلاً، تجنب، لا تستجب مباشرة»
ومع ذلك فقد يكون هناك استجابات مختلفة عند الأفراد، لا تكون بالضرورة ردة الفعل هذه مشابهة للعدوان ذاته.
نذكرها باختصار «اللامبالاة، الانسحاب، الخيالات، التنميط النكوص».
أطلق فرويد مصطلح ميكانزمات للتعبير عن وسائل الدفاع عن الذات إشارة إلى العمليات اللاشعورية للإنسان، سنضع بعض التفصيل عن هذه الميكانزمات علماً أن العلماء ليسوا متفقين عليها وهي المذكورة والمكررة في بعض مصادر علم النفس مثل «الكبت، التبرير، الإعلاء، الإزاحة، التقمص، رد الفعل العكسي، الإسقاط».
لكن العالم النفسي هليجارد وهو عالم نفس أمريكي شهير وضع ثلاثة مرتكزات أساسية لفهم ميكانزمات الدفاع وهي:
1/ميكانزمات الدفاع لا تتعدى كونها مفاهيم سيكولوجية فقط غير مدعمة ببراهين تجريبية، ولكنها كلها مفيدة في تلخيص ما نعتقد أنه يحدث عندما نراقب السلوك.
2/إن تسمية سلوك الفرد بأنه إسقاطي أو تبريري قد يزودنا بمعلومات وصفيه مفيدة عن الفرد، ولكن هذه المعلومات لا تفسر لنا السلوك، بمعنى أنها لا تجيب عن السؤال لماذا يسلك الفرد هذه الطريقة، أن مثل هذه التفسير يحتاج إلى معرفة الحاجات التي تجعل الفرد يلجأ إلى ميكانزمات الدفاع عند التعامل مع مشاكله.
3/كل الدفاعات توجد في السلوك اليومي للإنسان السوي، فهي وسائل مفيدة في التكيف واستخدامها، باعتدال يزيد من درجة رضا الفرد على أمور حياته. أما عندما تصبح هذه الدفاعات عبارة عن طرائق سائدة» في حل المشكلات فإنها عندئذ تدل على سوء تكيف في الشخصية
هناك خصائص لا يحب الفرد أن يعترف بوجودها لديه، وأحد الميكانيزمات التي تحقق هذا الغرض هو إسقاطها على الآخرين فالبخيل يتهم الناس بالبخل، فهو يبرر سلوكه باتهام الآخرين.
وهذا يعني أن الإنسان عندما يريد أن يخبئ دافعاً معيناً عن طريق إظهار عكسه فالبخيل يخفي بخله، عن طريق زيادة العطاء.
وكذلك أن مدعي رحمة الحيوانات، أي حماية الحيوانات ضد القسوة يكونون هم أنفسهم من النوع القاسي على الحيوانات.
إذا أعيق تحقيق أو إشباع دافع معين فالفرد يحاول تحقيق ذلك عن طريق آخر يكون في العادة، مقبولاً اجتماعياً وأخلاقيا.
إن الدوافع الجنسية التي لا يمكن تحقيقها يمكن التعبير عنها عن طريق الإزاحة نحو أعمال الرياضة أو الفن وغيره، وهذا أفضل الميكانيزمات في تحقيق الهدف.
وهذا الكنازم يطلق عليه في بعض الأدبيات النفسية مصطلح «التسامي» والتسامي أفضل تعبير عما تجريه النفس البشرية، بحيث أنها تتعالى على الحاجات والرغبات الجنسية، تجاه الأعمال الإنسانية، أو الإبداع، أو الرياضة، أو العبادة... الخ.
والتعليم الإسلامية تشير إلى هذا الإجراء، في حالة سورة الغضب، يقال لك اجلس إذا كنت في حالة الوقوف، وكذلك الأمر في موضوع الزواج حيث:
عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ».
فكما نلاحظ أنه يقول لمن لم يستطع الزواج، عليه بكثرة الأيام، فهذا بالفعل مصداق واضح إلى هذا الميكانزم.
الكبت هو واحد من أهم الميكانزمات الواضحة في المجال النفسي الطبي، ويعمل الكبت على منع الأفراد من بعض النزوات والأفكار، إلى درجة قدر الإنسان على إظهار أنه لا يعنيه الأمر بالكامل والكبت يؤدي إلى نسيان كلي، أو غياب تام للدوافع لعدم قبولها اجتماعيا.
كما أن فقدان الذاكرة الامنيزيا التي لا تعود إلى عطب في الدماغ، يمكن تفسيرها على أنها كبت كلي لخبرات مزعجة أو مؤلمة لا يريد الفرد أن يتذكرها، فحادث مؤلم ومزعج جدا للفرد كتعرض فتاة للاغتصاب مثلا قد يؤدي إلى كبت كلي للحادثة بحيث تصاب هذه الفتاة بفقدان الذاكرة فتنسى تماما ما أصابها والظروف المحيطة بالحادثة ويعمل التنويم الإيحائي والتحليل النفسي عادة على مساندة الفرد على تذكر الخبرات المكبوتة، مما يدلل على أن النسيان لم يكن سوى عملية لا شعورية لحماية الفرد من تذكر حادة تهدده وتستثير في نفسه قلقاً مزعجاً لا يعرف كيف يتعامل معه.
والتبرير هو أكثر وسائل الدفاع شيوعاً واستخداماً، وهو واسع الاستخدام عند الأطفال على الرغم من أنهم لا يعرفون هذه التسمية، وأكثر مثالاً معبراً على ذلك، قصة الثعلب الذي لم يستطع أن يغير الشروط في تحقيق رغباته قال عن العنب هذا حصرم لما رأى أنه لا يناله، فالذي يفشل في دخول كلية الهندسة، يتذرع بأخطار المهنة، أو كساد سوق المهندسين، والتبرير محاولة واضحة، للتخفيف عن القلق عن طريق التقرير بأن الفرد لم يكن محبطاً أو أن الصراع لم يحدث فعلاً، فالفشل في دخول الجامعة يمثل إحباطاً واضحاً يواجهه الفرد بالقول: بأنه لم يرد فعلاً دخول الجامعة، وان والديه أجبراه على ذلك والفشل في النجاح في امتحان ما، يبرره الطالب بأن بقية الطلاب نجحوا عن طريق الغش، وان لديه معايير خلقية عليا منعته من التصرف كالطلبة الآخرين. [2]
ليس من المطلوب على الإنسان أن يقول ويثرثر بكل ما يعلم ولا كل ما جرى إليه وله الحرية التي أودعها الله في في أن يتحدث أو يخفي ما يريد إخفاءه إن كان ذلك سيسير حياته بشكل سليم وإلا فإن عليه أن يراجع المختصين ولا يستطيع أحد أن يحدد ما إذا كان ما يمارسه الفرد من حيال دفاعية هي أفضل أو ترك هذه الحيل فالحرية متروكة للفرد نفسه يستخدمها كيف ما يشاء ووقت ما يشاء والعلوم الاجتماعية وكذلك الدين الإسلامي لا يفضلان الضغط على الإنسان لدى لإذاعة ما عنده مهما كانت الظروف.
وخير دليل على ذلك هو أن القرآن الكريم يذكر لنا في الآية رقم ثلاثة من سورة التحريم أن رسول الله ﷺ في حديثه عما علمه من الغيب عرف بعضه، وأعرض عن بعض ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ﴾ [التحريم: آية 3]. أما في حديث آخر فهو كالتالي:
عن أبي ذر عن النبي ﷺ في وصيته له قال يا أبا ذر أترك فضول الكلام وحسبك من الكلام ما تبلغ به حاجتك يا أبا ذر كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع [3] .