آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 12:28 م

تَساؤُلات مُنعَكِسَة

عقيل المسكين *

المسك:

- هي تساؤلات شتّى، تخص «البشر»، «الناس»، «المجتمع»، «الجماعة»، «العائلة الكبيرة»، «الأسرة»، «الفرد»، «أنا»، ومن كثرتها وازدحامها في دماغي الصغير منذ الطفولة الأولى، والطفولة الثانية، حتى مرحلة الشبابِ وشرخه، وإلى يومنا هذا وأنا في مرحلة الشيخوخة، لازلت أفكر فيها، بل لا زالت هي التي تفكّر وتفكّر بحثًا عن إجاباتٍ شافية لها في أمّ رأسي، حيث طرح التساؤل قد يكون له بعداً زمنياً ويظل التساؤل هو هو موجود في ذهني ولا أجد له حلاً وافيًاً ومقنعًا، وعندي الكثير من هذه التساؤلات عن التناقضات لدينا جميعًا نحن أعضاء جمعية البشر على وجه البسيطة، وكل الناس، والمجتمع الذي أعيش فيه، والجماعة التي أنتمي إليها، والعائلة الكبيرة التي أنحدر من أحد فروع شجرتها؛ والأسرة التي يضمني دفتر العائلة ضمن الجدول المدوّن فيه، وكذلك لدى أقرب الناس إليّ، ولكنني لا أبوح بهذه الأسئلة المحيرة لأحد، لأنني قد أكون أحد هؤلاء «المجتمع» و«الناس» و«الأقارب» لدى أشخاص آخرين يفكرون في نفس التساؤلات التي أفكر فيها، وهنا أكون أحد الذين يطرحون هذه الأسئلة عن الآخرين، ويكون الآخرون من يطرح هذه الأسئلة أيضاً وأكون أنا أحد الأمثلة لديهم في تساؤلاتهم ذاتها.

برأيك أيها الروائياتي ماذا تُسمى هذه الحالة في علمي النفس والاجتماع؟

الروائياتي:

- ما تصفه يشير إلى حالة تأمّلية نقدية ذاتية، يمكن تسميتها بـ ”الاغتراب التأمّلي“؛ أو ”الحيرة الوجودية الاجتماعية“ وهي حالة يعيشها الأفراد عندما يدركون التناقضات في المجتمع من حولهم، لكنّهم في الوقت نفسه يعون أنهم جزء من هذا المجتمع نفسه، وينتج عن ذلك نوع من التوتّر الفكري، حيث يكون الشخص ناقدًا وفي الوقت نفسه مُتأثرًا بتلك التناقضات، ويمكنني التمثيل بمثال واحد وجليٍّ في وضوحه لمجمل من يفكر في تناقضات المجتمع، وهو ظاهرة الإسراف في الولائم، وهي ظاهرة طالما يوجهها الفرد في انتقاد الآخرين حيث يكتشف - على سبيل المثال - أن ما يقوم به الآخرون بالإسراف في ولائم الزواج هو خطأ واضح لأن الإسراف مذموم عقلاً وشرعًا، بينما هذا الفرد الذي يقول ذلك، هو ذاته يرتكب ذات الفعل عندما يقوم بتزويج أحد أبنائه، وهذا تناقض واضح وصريح، وهناك أمثلة كثيرة في الحياة الاجتماعية بشكل عام، أما بخصوص ما يتعلّق بشخصك أيها «المسك» فأنت تفكّر في هذا الموضوع للتوصّل إلى الحالة السليمة التي ينبغي أن تتمسك بها في الحياة ولا تصبح من المتناقضين في حياتهم قولاً وعملاً؛ وهذا هدف يصعب الوصول إليه، ولكنه ليس مستحيلاً، وعلى الإنسان أن يجاهد نفسه للوصول إلى الاطمئنان النفسي في القول والعمل، بحيث يطابق قوله عمله، ويطابق عمله ما يحمله من الفكر والثقافة والمعرفة الذي يتحوّل بطريقةٍ ما على شكل مخرجات من «القول» المنطوق، أو المكتوب، وهذا عين الصواب.

المسك:

- جميلٌ ما ذكرته أيها «الروائياتي»، وسؤالي الثاني هو: إلى ماذا قد توصل هذه الحالة الإنسان المبتَلى بها؟

الروائياتي:

- هذه الحالة توصل الإنسان إلى إدراك أعمق للنفس والمجتمع، حيث ستدرك أنك لست وحدك في هذه التساؤلات، وأن كل مجتمع لديه تناقضاته التي يراها أفراده بوضوح عندما يتأملون فيها، وبقية أفراد مجتمعك الذي تعيش فيه يفكر أغلبهم نفس التفكير الذي تفكر فيه أنت، أو على أقل تقدير الذين يتساوون معك في الدرجة الثقافية والمعرفية والأدبية والمستوى العلمي لأنهم استوعبوا بما وصلوا إليه من هذه المستويات الكثير من الأمراض الاجتماعية عن طريق السماع أو القراءة، ومن خلال ذلك هم يفكرون بدرجات متفاوتة في كل المشكلات الاجتماعية أو جلّها أو بعضها حسب اهتمام كل شخص وتأملاته في الحراك الاجتماعي باعتباره أحد أفراده، ولكن النتائج التي يتوصل كل فرد منهم تتفق من جهات وتختلف من جهات، حيث تتفق في التوصل لنتائج مشابهة، وتختلف في أسلوب التعبير عنها، من هنا نُدرك درجة العمق في التعبير عن هذه المشكلات والتناقضات الاجتماعية، وكلما كان المثقف المتأمّل، أو لنقل كلما كنت أيها «المسك» عميقًا في تفكيرك وتأملك بالمشاكل الاجتماعية كلما أصبت الهدف ووضعت يدك على الجرح الحقيقي؛ وبذلك تتلمّس الدواء المناسب لهذا الجرح كما ذُكر في المصادر العلمية المعتبرة والمراجع المتخصصة.

كما قد توصلك هذه الحالة إلى التردد بين النقد والقبول، إذ تجد نفسك غير قادر على اتخاذ موقف نهائي وتسأل نفسك هل أنت جزء من المشكلة أم من الحل؟، وهذا يعتبر بمثابة مفترق طرق، فإما أن تسلك طريق النقد البنّاء والبحث عن الأفضل في حل المشكلة وتجاوزها بمطابقة القول العمل، أو تسلك طريق القبول والانحدار مع الخطائين في المجتمع والمتجاوزين الحالة الإيجابية لصالح الحالة السلبية، وهذا خطأ واضح وضميرك لن يقبله أبدًا؛ إلا إذا دست على ضميرك وخلّفت عقلك خلف ظهرك، ولا أظنك تفعل ذلك أيها «المسك».

وقد يلجأ البعض إلى الإبداع أو العزلة الفكرية، حيث يترجم هؤلاء الأشخاص هذه الحيرة إلى أعمال إبداعية، بينما قد يختار آخرون العزلة عن المجتمع أو التكيّف معه بشكل غير واعٍ، والإبداع في أي مجال من المجالات كالكتابة بأي شكل من أشكالها، أو الخط، أو الرسم، أو النحت، أو أي نشاط علمي أو حرفي أو فني، وما إلى ذلك، هذه كلها جميلة ورائعة؛ ولكن بشرط أن يوظف فيها الحالة الإيجابية لتأمّلات الذات ونظرها إلى الواقع والوجود، أما إذا وظف تناقضاته وعقدهِ النفسية وانحطاطه الوجداني وانحرافه عن الفطرة فهذه حالة سلبية وانحراف بيّن؛ وهو خلاف عمّا أريد له من الحفاظ على كرامته كإنسان ينظر إلى ذاته وإلى الواقع وإلى الوجود بعين ملؤها الأمل الخلاّق والتفاؤل الحكيم، أما العزلة الفكرية فهذه حالة مرضية أيضًا لأن الإنسان مسؤول عن حياته وعن وجوب التزامه بالحالة الاجتماعية فهو اجتماعي بطبعه - كما قال علماء الاجتماع - وإن انحرف عن هذه الطبيعة في نفسه فقد حكم على نفسه بالسجن الانفرادي وهذا ما لا يقبله العقل ولا الشرع.

وقد يلجأ المتأثر بهذه الحالة إلى إعادة تعريف القيم على طريقته الخاصة، حيث تُؤدي هذه التساؤلات عن تناقضات المجتمع إلى إعادة النظر في القيم التي يؤمن بها، إما بترسيخها في ذهنه أو تعديلها بحسب مزاجه أو حتى رفضها، وهنا تتعقد النتائج لديه وتتشابك إلى حدّ الضياع أو المسير في متاهة ثقافية أو فكرية أو فلسفية.

المسك:

- وماذا لديك أيها الروائياتي من الأمثلة في عالم السرد الروائي والقصصي والمسرحي حول هذه الحالة النفسية والاجتماعية؟

الروائياتي:

- هذه الفكرة تم تناولها كثيرًا في الأدب العالمي عبر شخصيات تعيش التناقضات الاجتماعية وتحاول التصالح معها أو تحدّيها، ففي الأدب العربي نقرأ رواية ”اللص والكلاب“ لنجيب محفوظ، وفيها يعاني سعيد مهران من الشعور بالخيانة من أقرب الناس إليه، ويرى نفسه ضحية مجتمع متناقض، لكنه في الوقت نفسه يسأل نفسه إن كان هو ذاته جزءًا من المشكلة، وفي رواية ”موسم الهجرة إلى الشمال“ للطيب صالح؛ يتناول التناقضات بين الشرق والغرب من خلال شخصية مصطفى سعيد، الذي يشعر بأنه ينتمي لكلا العالمين، لكنه غريب عنهما في ذات الوقت، أما في الأدب الأوروبي فنقرأ رواية ”المسخ“ لفرانز كافكا، وفيها شخصية غريغور سامسا، بعد تحوله إلى حشرة، يصبح غريبًا عن عائلته رغم أنه كان جزءًا منها، مما يعكس الاغتراب الذي قد يشعر به الإنسان حتى داخل أقرب الدوائر إليه، وفي رواية ”الجريمة والعقاب“ لفيودور دوستويفسكي نقرأ عن شخصية راسكولينكوف الذي يصارع نفسه بين مبرراته العقلية للجريمة التي ارتكبها وإحساسه الداخلي بالذنب، فيجد نفسه ناقدًا ومشاركًا في الظلم المجتمعي في آنٍ واحد، أما في الأدب الأمريكي فنقرأ رواية ”الحارس في حقل الشوفان“ لجي. دي. سالينجر، وفيها شخصية هولدن كولفيلد التي تعيش حالة من النفور من ”زيف المجتمع“، لكنه في الوقت ذاته عاجز عن إيجاد مكان يناسبه، أما في عالم المسرح والفكر الوجودي ففي مسرحية ”في انتظار غودو“ لصمويل بيكيت، نقرأ شخصيتَي فلاديمير وإستراغون اللتين تعكسان ضياع الإنسان في مجتمع لا يمنحه إجابات واضحة، وفي مسرحية ”لا مخرج“ لجان بول سارتر؛ نقرأ الشخصيات التي تجد نفسها عالقة في غرفة مغلقة، مما يرمز إلى عجز الإنسان عن الهروب من تناقضات الحياة والعلاقات.

المسك:

- الخلاصة التي استنتجتها من كلّ ذلك أيها «الروائياتي»: إن هذه الحالة ليست غريبة مطلقًا، بل هي حالة جوهرية في الفكر الفلسفي والأدبي رفي كل رقعة جغرافية يعيش فيها البشر؛ ومن يعيش هذه الحالة بوعي قد يتحول إلى مبدع حقيقي أو ناقد اجتماعي، بينما من لا يدركها قد يعيش في قلقٍ مستمر دون إجابات، أو قد يتوصل إلى إجابات ولكنه لا يعبأ بها، والسؤال الأهم هنا: هل سنختار التأمل السلبي أم سنترجمه إلى فعل وإبداع؟