حصار الماء
في الوقت الذي يتشاغل فيه العالم برصد ردود الأفعال على تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب حول تهجير الغزاويين، يمضي أهل هذا القطاع المنكوب ساعاتهم في انتظار الحصول على ماء صالح للشرب، فما إن اتسعت أحداقهم بالأمل مع انطلاق هدنة الحرب، وجمعوا متاعهم وما تبقى من أواعيهم وساروا باتجاه الشمال، حتى وجدوا الواقع المر الذي فرضته آلة التدمير الإسرائيلية وهي توظف كل ما انتهت إليه الصناعة الحربية المتوحشة في تجريف كل أسباب الحياة في القطاع، وكانت البنية التحتية المدنية واحدة من الأهداف الحربية الكاشفة عن نوايا المحتل في تحويل حياة الغزاويين إلى جحيم لا يطاق.
أزمة الماء كانت حاضرة طيلة الأشهر الماضية، حيث مثلت عمليات النزوح المتكررة باتجاه الجنوب عامل ضغط كبير على المصادر الشحيحة بطبيعتها، فضلاً عن تلوث المياه الجوفية بسبب الحرب، حتى إذا ما عاد أهل الشمال إلى ديارهم المهدمة اكتشفوا أنهم أمام معركة أخرى لا تقل مأساوية عما فات من مشهد الحرب، أمام عطش مستمر لأجل النيل من صمودهم وإصرارهم على البقاء داخل القطاع، في ظل غياب مرافق المياه التي شارك في بنائها الاتحاد الأوروبي بأموال دافعي الضرائب، وهو ما حمل أعضاء البرلمان الأوروبي خلال الشهر الفائت لمساءلة المفوضية الأوروبية عن موقفها من هذه الأزمة الإنسانية، وما إذا كانت تنوي مقاضاة إسرائيل على تدمير المرافق الممولة من قبلها.
دراسة صادرة عن منظمة أوكسفام الدولية نشرت نهاية العام الماضي بعنوان:
«كيف استخدمت إسرائيل الماء كسلاح في حربها على غزة»، أفادت بخسارة غزة لطاقتها الإنتاجية من المياه بنهاية يونيو 2024، و 88 % من آبار المياه فيها، إلى جانب تدمير جميع محطات التحلية المتاحة فيها، الأمر الذي اعتبرته الدراسة امتداداً لسياسة الحرمان التي تتبعها إسرائيل في هذه الحرب، وهو ما دفع منظمة «هيومان رايتس ووتش» لاعتباره فعلاً من أفعال الإبادة الجماعية في تصريحاتها لشهر ديسمبر 2024، مشيرة إلى أن استهداف البنية التحتية للقطاع هو جزء من ممارسة منهجية تتبعها السياسة الإسرائيلية.
الوجوه التي ابتسمت أمام عدسات الكاميرا في طوفان العودة تبحث الآن عن مرشحات للحياة الملوثة بألوان العذاب، تتخلى عن كثير من أمنياتها وهي تختزل رغبتها في الحصول على ماء نظيف، ماء يصلح للشرب، حتى تستطيع كتابة ما تبقى من سطور في دفاتر الصبر الطويل، فالذين أفلتوا من لحظات الموت في يوميات القصف يخافون اليوم من أن ينتهوا إلى الموت عطشاً، أو بالأمراض التي يجلبها الماء الملوث، في ظل انهيار تام لمنظومة الصرف الصحي وباقي الخدمات التي يمكن أن تجعل من الحياة ممكنة على تراب تلك الأرض.
أمام نداءات الاستغاثة التي يطلقها الفلسطينيون في غزة من أجل قطرة ماء، وأمام مشاهد الصور التي تبعثر مشاعرنا وهي تظهر طوابير المنتظرين على باب النجاة، نشعر بأن ماء وجوهنا قد جف، وأن أصواتنا تتلاشى وهي لا تترك أثراً في هذا العالم الذي شاح بوجهه عن هذه المأساة الإنسانية، وكأننا في لحظة انحطاط حضارية أخرى، تقودها قوى منقادة لغرائزها، لا تعرف للقانون مكاناً، ولا للقيم الإنسانية اعتباراً واحتراماً، إلى الحد الذي تصبح فيه البلدان مجرد مشاريع عقارية تباع وتشترى، والإنسان فيها مجرد متاع قابل للنقل والترحيل!