آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 12:28 م

النَّخلاتُ الثَّلاث

عقيل المسكين *

المسك:

- أتذكر قبل التحاقي بالمدرسة الابتدائية عام 1383 هـ، وفي السنوات الأولى من هذه المرحلة أيضاً ابتداء من 1384 هـ، أنه كانت لدينا ثلاث نخلات في أرضِ والدتي المجاورة للبيت العود والذي يقع في زاويتِها الغربية «الدروازة الغربية» وعلى يسارها من الداخل موقع «الرّكية» المربعة وهي عين ماء صغيرة، وبأحد جوانبها من الداخل مضخة يدوية قديمة من أيام جدّي لأمي الحاج منصور المسكين - رحمه الله -، ويُسميها البعض ”اطرمبة“ كما ذكر لي كل من الكاتب حسين السلهام والكاتب عبد الفتاح الدبيس، وتُسمى أيضًا بـ ”الشفاطة“ كما ذكر الكاتب جمال المطوع والشاعر منصور جواد، أما الفنّان عبد الله الرمضان فيقول إنها تُسمى ”النَّزَّافة“؛ وعادة ما يتم جلبها من الهند، ولكن هذا الإسم يخص مضخة الماء اليدوية التي تُستعمل في ”اللنجات“ - وقتئذٍ - لسحب الماء خارجها، ولكن الإسم المتعارف عليه حاليّاً لتلك التي شاهدتها في ”الركيّة“ ببيتنا القديم هو ”المضخة اليدوية“ كما ذكر ذلك أستاذنا الكاتب عبد الواحد النعيمي وذكر إنها تُسمى أيضًا بالشفّاط، وذكر في تعليقه على تعريف هذه الآلة اليدوية: ”لونها غالبًا ما يكون أحمر ولها ذراع خشبي يتم تحريكه إلى الأمام وإلى الخلف؛ وكان في بيتنا واحدة مثلها تم تركيبه على خطِّ ماءٍ من عين «لِعويد»، ونهلك أثناء تحريكه وهو يدمع قطرة قطرة ونستغرق ما يقارب النصف ساعة إلى أن نملأ وعاءً من الماء، وكذلك كان يوضع على براميل الجاز“.

وكانت الثلاث نخلات بجانب الجهة الشمالية من هذه الأرض، أي بِحذاءِ جدار منزل خالتي فاطمة ”حفظها الله“ والتي تسكن فيه مع زوجها البحريني أبو يوسف الحاج يعقوب مرزوق الجمري مع أولادهما وبناتهما، وكنت أحبّ هذه النخلات وألعب حولهنّ، وأسقيهنّ بماء الركيّة؛ وأجلس تحت ظلالها من وقتٍ لآخر عند الاستراحة من اللعب، وبعض الأحيان أجلس بجانبهنَّ على ”مدّةٍ“ أو حصيرٍ للمُذاكرة وحفظ قصار السور المفترض علينا كطلّاب حفظهنّ في درس القرآن الكريم، إلا أنني ذات ظهيرة عدت من مدرسة الأندلس بعد انتهاء الحصة السابعة، مارَّاً بحارة الخصاب حتى وصلت للبيت العود من الدروازة الغربية وحقيبتي مُثبّتة بِحزاميها على كَتِفَي خلف ظهري، وأنا فرح مسرور بالعودة استعداداً لتناول وجبة الغذاء مع أمّي الحبيبة وإخوتي وأخواتي الصغار، وكذلك لأرى نخلاتنا الثلاث، إلا أنني صعقت عندما شاهدت أن هذه النخلات قد تم اجتثاثهنَّ من الأرض وتقطيعهن وإخراجهن من البيت عن طريق اثنين أو ثلاثة من العاملين وجدتهم يحملون الجذوع المقطعة ويخرجونها خارج الحوش ويضعونها مُؤقّتاً على جانب من الطريق الصغير الذي يقع بين بيت جارتنا «أم هارون» على اليمين، وبيت أبي عباس الحاج علي ربعان، وكان والدي وبعض أعمامي معهم واقفين في الداخل، كما شاهدت أحدهم وهو ينظف ”لبّ النخلة أو ما يُسمّى بـ «جمار النخل...»... نظرًا لما يختزنه الجذب من فوائد صحية كبيرة لاحتوائه على الفيتامينات والبروتينات والأملاح، ولطعمه اللذيذ والطري والخفيف على المعدة“ - كما نقل عن المتخصصين -، وعلى ما يبدو لقد استخدم العمال الذين كانوا موجودين في الحوش عدة آلات يدوية لذلك حيث قاموا ”باستخراج الجذب... بعد جهد كبير، باستخدام آلة الهيب والمِنجل، حيث يبدأ العمل مع بداية قطع النخلة، والعمل على تجذيبها، بعد ذلك تتم عملية الخفاف، وهي نزع الليف من جوانب رأس النخلة، ثم عملية التصفية وفرز الكرب عن الجذب، ثم تتم عملية التقذيل للتنظف“، ثم يكون الجذب جاهزاً وقد تم استخراج الجذب من النخلات الثلاث وتم تقديمه لوالدي لإدخاله للبيت وإعطاء قسم منه لجدتي «أم ناجي» في الدور العلوي وقسم منه لوالدتي «أم عقيل»، وهذه المادة تُؤكل وطعمها لذيذ.

لقد كانت هذه المشاهد الصادمة بمثابة الضربة القوية على ظهري، بحيث لم يعد هذا الظهر الضعيف مُتحمّلاً الألم الناتج من قوة وبطش هذه الضربة وقسوتها، أو كأنّها بمثابة الهمّ الثقيل الذي يشابه في وزنه وزن أحد الجبال وقد سقط عليّ مهشّمًا كلّ ذرَّة في جسمي الهزيل، لقد كانت بيني وبين هذه النخلات الثلاث علاقة جميلة يكتبها اللون الأخضر المشابه للون السعف المتدلّي كثياب النشل الخضراء على أجسادِ العرائس الفاتنات، كنتُ أتذكر هذه النخلات في الذهاب والإياب، وفي أويقات العصر وقُبيل المغرب حيث الظلال المنعشة والنسيم المعطر بهفهاف النخيل ورائحة الياسمين الصادرة من بعض أشجار أحواش بيوت الجيران، وهذه الذكريات رغم بساطتها إلا أنها تحمل قدراً كبيراً من الاعتزاز، وشأناً عظيماً من الفخر، وحسبي أنها علاقة رائعة بين براءة الطفولة والبيئة الخضراء من حوله لا سيما هذا الرمز الذي يزال حيًّا بقيمته التاريخية أو وهو «النخلة» التي أصبحت شعاراً وطنيَّاً للنماء والعطاء؛ مع رمز القوة والجهاد «السيف»، بالإضافة إلى شهادة التوحيد، وهذا الارتباط بالنخلة يعني لي الكثير جداً في ذاكرتي الطفولية، ولا يمكنني نسيانه أبدًا.

وأتذكر في السنين الحاضرة أنني كلما مررت ببائعي الجذب على يمين مدخل مدينة القطيف قبل قطع إشارة الشويكة على اليمن، حيث أشاهد الباعة يبيعون الجذب المأخوذ من النخيل، فتذهب بي الذاكرة إلى أيام الطفولة وأتذكر ذلك الموقف الحزين حيث تم قطع النخلات الثلاث من أرض والدتي ”حفظها الله“، وأتذكر الجذب الذي استخرجه ذلك الرجل من النخلات الثلاث، وكأن المشهد أمام ناظري الآن كالشريط السينمائي الذي مضى عليه ما يقارب النصف قرن وربما يزيد قليلاً.

الروائياتي:

- يتعلق الطفل أو مجموعة من الأطفال بشجرة ما أو نخلة ما أو مجموعة من الشجيرات أو النخيلات، في بناء منزلهم، أو بالقرب من سكنهم، وتكون هناك علاقة عاطفية مع هذه الأشجار أو النخيلات، وبعد زمن ما يتم قطعها لأي سبب من الأسباب، فتحدث الصدمة لهؤلاء الأطفال، وتكون هناك حالة قلقة لديهم، بحيث تتم طرح التساؤلات والبوح بالألم تجاه ما حدث.. وتستمر معهم هذه الحالة كذكرى مفجعة بالنسبة لهم، وهذا شيء طبيعي لأنه يتعلق بفطرة الإنسان وبراءته وعلاقاته الوجدانية بما حوله، لا سيما الطبيعة من حوله وربما ارتباطه بعض الحيوانات الأليفة كالقطط والأنعام وما إلى ذلك، وفي الأدب الإنساني أمثلة متعددة حول هذا الموضوع تتطرق إلى العلاقة العاطفية العجيبة بين الأطفال وشجرة ما أو الأشجار القريبة من سكنهم، وعلى سبل الإجمال يظهر ذلك في رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ الذي أوضح العلاقة بين بعض الأطفال والنخيل في حارتهم، كذلك في رواية ”البيت الكبير“ لإحسان عبد القدوس، حيث أورد فيها تميّز العلاقة بين البطل وشجرة الزيتون في بيته، وكذلك في رواية «شجرة اللبلاب» لمحمد عبد الحليم عبد الله، حيث أورد علاقة بطلي الرواية الحبيب والحبيبة بشكرة اللبلاب نفسها التي تتدلى من الدور الأرضي حيث سكن الحبيبة مع أمها للدور العلوي حيث يسكن الحبيب، وتدور الرواية كلها حول طريقة التواصل بينهما عبر هذه الشجرة المتدلية، وكذلك في رواية «الطريق إلى مكة» لنجيب محفوظ يذكر شجرة النخيل كرمز للطفولة.

أما في الأدب الأوروبي، فتبرز رواية «أليس في بلاد العجائب» لويس كارول، حيث تعبر أليس عن حزنها لقطع شجرة الجمال، وفي «الطفولة السعيدة» لجين أوستن، يظهر العلاقة بين البطلة وشجرة البلوط في حديقتها، وفي «الغابة المظلمة» لجوزيف كونراد، يصور العلاقة بين البطل وشجرة الغابة المظلمة، وفي الأدب الآسيوي نقرأ «الطفولة في قرية صغيرة» لليو تولستوي، حيث يظهر العلاقة بين الأطفال وشجرة البلوط في قرتهم، وفي «شجرة النخيل» لكاتو كازو، يصور العلاقة بين البطل وشجرة النخيل في بيته، وفي «الغابة المقدسة» لاريغو كيودا، يظهر العلاقة بين الأطفال وشجرة الساكاكي في غابتهم، أما في الأعمال المسرحية فنقرأ «الغابة المظلمة» لمارك توين، الذي يصور العلاقة بين الأطفال وشجرة الغابة المظلمة، وقد ظهر هذا العمل بنفس العنوان كفيلم سينمائية عام 2014 م، وفي «شجرة الحياة» لجبران خليل جبران يظهر العلاقة بين الإنسان وشجرة الحياة، وقد ظهر هذا العمل كفيلم سينمائي عام 2011 م بنفس العنوان.

أما في الأعمال القصصية، فنقرأ ”قصص الطفولة“ لجبران خليل جبران، الذي يظهر العلاقة بين الأطفال والأشجار، وكذلك في مجموعة ”شجرة النخيل“ لمحمد صادق، يصور العلاقة بين البطل وشجرة النخيل، وفي مجموعة ”الغابة المقدسة“ لاريغو كيودا، يظهر العلاقة بين الأطفال وشجرة الساكاكي، والأدب الإنساني يفيض بأمثلة كثيرة من هذا الجانب الإنساني في العلاقة العاطفية بين الإنسان والأشجار من حوله أياً كان نوعها، كل حسب البيئة الزراعية التي يعيش فيها.