آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 12:28 م

الفلسفة العربية بين إبداع المفاهيم وتبعية النقل

قراءة في تاريخ الجدل الفكري

كاظم الصالح *

شغل سؤال إنتاج العرب للمفاهيم الفلسفية حيزا كبيرا من النقاشات الفكرية العربية والعالمية، حيث يتنازع الباحثون بين مؤكد على أصالة الفكر الفلسفي العربي وبين منكر له، معتبرين أن ما ينسب إلى العرب من فلسفة ما هو إلا اجترار للتراث اليوناني أو مجرد شروح وتعليقات.

يجادل عدد من المفكرين بأن الحضارة العربية الإسلامية قدمت إسهامات فلسفية عميقة، سواء عبر تطوير مفاهيم يونانية أو ابتكار مفاهيم جديدة انبثقت من السياق الثقافي والديني الخاص. ومن أبرز هؤلاء: محمد عابد الجابري، الذي يرى في مشروعه ”نقد العقل العربي“ أن العقلانية العربية تجلت في علوم الكلام والفلسفة الإسلامية، حيث طور مفكرون مثل الكندي والفارابي وابن رشد، مفاهيم ك ”العقل الفعال“ و”الوجود الممكن والواجب“، مدمجين بين المنطق الأرسطي والرؤية القرآنية، كما يشير إلى أن ابن خلدون أسس علم الاجتماع عبر مفهوم ”العمران البشري“، الذي يعد إضافة نوعية لفلسفة التاريخ.

أما حسين مروة في كتابه ”النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية“، يؤكد مروة أن فلاسفة مثل ابن سينا وإخوان الصفا قدموا تصورات مادية جدلية حول الكون والمادة، متجاوزين الميتافيزيقا اليونانية، ويبرز مفهوم ”الحركة الجوهرية“ عند ابن سينا كإبداع فلسفي فريد.

ويشيد أبو يعرب المرزوقي بمدرسة ”التوحيد“ الفلسفية في الإسلام، معتبرا أن مفاهيم مثل ”الواحدية“ «نفي التعدد عن الذات الإلهية» و”الربوبية“ تشكل نظاما فلسفيا متكاملا، مختلفا عن الثنائيات اليونانية.

أما المستشرق الألماني أوليفر ليمان فعلى الرغم من كونه غربيا، يقر ليمان بأن ابن رشد قدم قراءة نقدية لأرسطو، أثرت في الفلسفة الأوروبية الوسيطة، خاصة عبر مفهوم ”الحقيقة المزدوجة“ «التوفيق بين العقل والدين».

في المقابل، يرى فريق آخر أن ما يسمى ”الفلسفة العربية“ هو مجرد حلقة نقل للتراث اليوناني، دون إضافة جوهرية. ومن أشهر أصحاب هذا الرأي: طه حسين في كتابه ”في الشعر الجاهلي“، ينتقد طه حسين فكرة الأصالة الفلسفية العربية، قائلا إن الفلاسفة العرب اقتصر دورهم على الترجمة والشرح، خاصة لأعمال أرسطو وأفلاطون، دون تطوير منهج مستقل. أما إدوارد سعيد في كتابه ”الاستشراق“، يشير إلى أن الغرب تعمد تضخيم دور العرب ك ”ناقلين“ للحضارة اليونانية، بينما قلل من إبداعهم الفلسفي، مما ساهم في تشكيل صورة نمطية عن العقل العربي كعقل تابع.

ويتحدث أيضا في هذا الجانب المفكر جورج طرابيشي في نقده للجابري، برفض فكرة وجود عقل عربي متميز، معتبرا أن الفلسفة العربية ظلت أسيرة الإطار اليوناني، ولم تنتج مفاهيم خارج سياق التوفيق بين الدين والفلسفة.

أما المستشرق الفرنسي إرنست رينان فيذهب في كتابه ”ابن رشد والرشدية“ إلى أن الفلسفة العربية ”ماتت“ مع ابن رشد، لأنها لم تستطع تجاوز الإطار الديني، مقارنة بالعقلانية الأوروبية التي انطلقت من «العلمانية».

بعد هذه القراءة لتاريخ الجدل الفكري بين المفكرين يتضح لنا أنه لا يمكن الفصل في هذا الجدل دون تحديد معايير ”الأصالة“ و”الإنتاج الفلسفي“. فإذا كانت الأصالة تعني الابتكار التام، فإن معظم الفلسفات العالمية «بما فيها الأوروبية» قامت على تطوير تراث سابق. أما إذا قصد بالأصالة التكيف السياقي مع الأسئلة الجديدة، فإن العرب قدموا إجابات فريدة، مثل: «مفهوم العقل عند المعتزلة» الذي حاول تأسيس الأخلاق على العقل بدل النقل. ونقد ابن خلدون للتاريخ كمحاولة لقراءة الواقع الاجتماعي بعيدا عن المثالية اليونانية.

من ناحية أخرى، يظل الاتهام بعدم الاستمرارية الفلسفية بعد القرن الثالث عشر وجيها، حيث تراجع الإنتاج الفلسفي العربي مقارنة بالنهضة الأوروبية، مما يعزز رأي المعارضين، من هنا يبدو أن الجدل حول إنتاج العرب للمفاهيم الفلسفية مرتبطا بأسئلة الهوية والمركزية الثقافية أكثر من كونه نقاشا أكاديميا محضا. فبينما يظهر المؤيدون أن العرب طوروا مفاهيم داخل سياقهم الحضاري، يذكرنا المعارضون بأن الفلسفة ك ”مشروع نقدي مستمر“ لم تجد بيئة حاضنة في التاريخ العربي الحديث. وربما تكون الإجابة الحاسمة هي أن العرب أنتجوا فلسفة خاصة، لكنها توقفت عن التجدد مبكرا، تاركة السؤال مفتوحا عن إمكانية ولادة فلسفة عربية معاصرة.

كاتب مهتم بالفكر والفلسفة، عضو جمعية الفلسفة السعودية