آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 12:28 م

حبيب إبريه.. سيرة حب متجلية

عبد العظيم شلي

العابر لكورنيش سنابس وقت «العصاري» سيلاحظ جلسات متعددة لرجال يفترشون الرصيف، ذات اليمين وذات الشمال، تتفاوت أعمارهم وتوجهاتهم، هم أشبه بالطيور البحرية المتنوعة، كل فئة على أشكالها تقع. ما يجمع هذه الجلسة ربما لا يجمع الأخرى، لكن ينطبق عليهم المثل الشعبي:“كلنا عيال اقريه، وكلن يعرف أخيه”.

ولو أراد العابر أن يدون من كل بحر قطرة، تراثيًا، ثقافيًا، اجتماعيًا، وحتى رياضيًا عن كل ما يمس المكان، فليجالس كل مجموعة على حدة، حتمًا سيجد ضالته. وهمسة في إذن العابر: إياك أن تتذاكى عليهم، فسيفقدونك البوصلة، فهم أبناء بحر أبًا عن جد، عارفون بخرائط الإبحار وأبعاد ما يُرى وما لا يُرى. سيسمع منهم معلومات وافرة وحكايات بما لذ وطاب، وكأنه في سفر بحري يُطاف به بين متاهات الخلجان، ومغاصات العجائب، وبنادر الغرائب.

الناظر للجلسات يظن بأنها وليدة اليوم، لكنها أقدم من الكورنيش ذاته بعشرات السنين، تجمعات تقادم عهدها، موروثة بشكل عفوي لأناس متنفسهم البحر، عشقهم البحر، ملاذهم البحر، وبرغم المتغيرات، هم جزء من ذاكرة المكان، وانعكاس لما مضى من حقب وأزمان.

كاتب السطور له نصيب من جلسة شمالية للكاتب حسن دعبل وأصحابه، بينما أكبر جلسة تقع بالقرب من كمرك سنابس المهجور، وتضم أبي فرج القروص وجيرانه. ثمة جلسة تقع أقصى الجنوب، يطلق عليها الشاعر يوسف إبريه تصنيفًا بـ «جماعة الكورنيش»، وهم:

1. أبو تيسير الناصري

2. علي حسن المطوع

3. علي آل سعيد

4. عبد الله الكوّاي

5. عبد العزيز آل طلاق

6. عباس الدولة

7. عنبر الزريقي

8. حبيب إبريه

وعلى مقربة من تلك التجمعات، مجالس خاصة داخل المنازل وملاصقة لها، بعضها مشهور، وأخرى غارقة في القدم، من ضمنها «جماعة المضوي»، وهي ديوانية تقع خلف مسجد الفتح بالقرب من «مطار الحمير». وتعريف المضوي هو: دار قديمة تُضاء ليلًا بلمبة أو فانوس، يتخذ منها رجل مهنته استقبال البحارة قبل ذهابهم للبحر وبعد عودتهم منه، حيث يقدم لهم التمر والقهوة والشاي والغليون، وفي الوقت نفسه يكون عارفًا «بالولمة» - أي المد والجزر - ليرشد البحارة.

لكن مع تبدلات الزمن وأفول الأيام العامرة بخيرات البحر، انتهت أهمية الدار، وأصبحت“قفره”، ثم تحولت لديوانية عامرة بالوجوه الطيبة، وكأنهم يستحضرون جلسات آبائهم وأجدادهم، يستنشقون عبق الماضي. تضم هذه الديوانية أصحابًا من الحي الجنوبي وفريق شرق، وأطلقوا على أنفسهم «جماعة المضوي»، وهم:

1. علي آل إسماعيل

2. مهدي الخليل

3. حسن آل إسماعيل

4. أحمد الصايغ

5. جابر الكوّاي

6. يوسف آل إسماعيل

7. موسى آل دغام

8. محمد آل طلاق

9. محمد علي إسماعيل

10. حسن العرادي

11. حبيب إبريه

أيضًا، هناك تجمعات أسبوعية، مثل مجلس الأستاذ منصور قنمبر، حيث يستقبل الأصحاب والجيران مساء الأربعاء في جلسة معروفة بـ «جلسة الخميس»، وقد وصل عدد اللقاءات حتى آخر خميسية إلى 93 جلسة. مجلس عامر لم يزل يستقبل جلاسه بالحب والترحاب، ومن ضمنهم:

1. علي رضي إبريه «أبو جلال»

2. أحمد إبراهيم طلاق «أبو وائل»

3. عبد الله محمد علي قنمبر «أبو حسن»

4. علي جاسم آل قنمبر «أبو محمد»

5. حسين علي محمد آل قنمبر

6. عبد المحسن مرهون البحراني «أبو علي»

7. عبد الغفور سلمان العبد الهادي «أبو أحمد»

8. حبيب محمد علي رمضان «أبو محمد»

9. محمد علي ربيع «أبو عمر»

10. حسين آل سالم «أبو علي»

11. حسين علي شطي «أبو علي»

12. حبيب محمد علي إبريه «أبو حسن»

ثلاثة تجمعات تعمدت ذكر أغلب مرتاديها، مختومة دائمًا باسم“حبيب”.

ما حالها اليوم؟ ليس كحالها بالأمس، حيث تمر هذه التجمعات، منذ يوم الأحد، بحالة حداد لفقدها واحدًا من روادها الرئيسيين، ألا وهو الأستاذ حبيب إبريه.

فارق الخلان والأصحاب، تركهم بين الأنين والنحيب، مصدومين، مذهولين، مفجوعين. رحيل مفاجئ بلا مقدمات، فلم يكن ممددًا على فراش المرض ليتهيؤوا نفسيًا، بل بعضهم لم يكن يدري بأنه نقل على عجل مساء السبت، ولكن عند تباشير فجر الأحد، فارق الحياة.

انتشر النبأ، والعيون محدقة يغشيها الدمع:

“انتقل إلى رحمة الله تعالى الحاج المعلم حبيب محمد علي آل إبريه من أهالي سنابس”.

هي صيغة الخبر المتوارد، وعند انتشاره، خلف موجة حزن تناثرت على جنبات كورنيش سنابس، وساد الأسى تلك الجلسات التي ألفها سنينًا. خبر قاسٍ، مؤلم على قلوب الأهل والمحبين والمعارف والجيران، ولسان حالهم:“بالأمس كان معنا، واليوم رحل!”

هي الدنيا، بين قادم ومرتحل.

شيّعه أحباؤه لمثواه الأخير، بين باكٍ ونادب، وسط جنح ظلام الليل وارتعاشات الفقد ولسعات البرد، بحسرة عزيز راح. شنفت الآذان أصوات المواليد المتعالية، التي خففت من وحشة الغياب. دُفق الماء على القبر بترداد آهات:

“وداعًا يا حبيب، الرحمة على روحك الوادعة، وحشرك الله مع من تحب.”

التقاط أنفاس حب مرسلة لأحباء المعلم حبيب إبريه، الذي غادرهم على عجل، صاحب الابتسامة الرقيقة التي لا تفارق محياه، هي الوصل لمن ألفه أو لاقاه طوال حياته.

كان حبيب شخصًا تألفه من أول جلسة، يحدثك بلطف دون كلفة، خفيض الصوت، هادئ الطبع، خجول النظرات، لا يمكن أن يطيل النظر أو يحدق فيك وأنت تتحدث إليه. يخفض عينيه إنصاتًا، ويباشرك بالكلام متى ما انتهيت.

طبعه التأني والسكون دون جلبة، لين العريكة، مجبول عليها، أريحي العشرة، والفكاهة ديدنه. وما يميز شخصيته، حسب كلام الأستاذ منصور قنمبر، ليس فقط دماثة أخلاقه، بل حسه الظريف الممتع في سرد الحكايات والقصص التي صادفها أو حدثت له في البر والبحر.

رحل حبيب إبريه، لكنه لم يرحل من ذاكرة الأحبة، فهو لم يكن مجرد فرد في هذه التجمعات، بل كان روحها، وفاكهة الجلسة التي تحلق حولها الجميع.

سلامٌ على روحك يا حبيب.