آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 1:45 م

استِخسَار

عقيل المسكين *

المسك:

- نقل لي أحد الأصدقاء أنه عندما توسط والدُه عند أخيه لِيوافق على بيع بيته الأول لهذا الصديق، وتمت الموافقة على ذلك بعد القليل من التفاوض والتفاهمات، وخلال أقل من شهر استطاع هذا الصديق الانتهاء من إجراءات الحصول على قرض من أحد البنوك بعد أن أتمّ إجراءات تثبيت راتبه في فرع هذا البنك من قِبل الشركة التي يعمل فيها، وبعد نزول مبلغ القرض في حسابه قام بإجراءات شراء البيت من عمّه حيث راجع كلاهما كاتب العدل لإكمال إجراءات إفراغ الصك باسم صديقنا المشتري وكان ذلك في عام 1424 هـ، وخلال أشهر قليلة قام صديقنا بإجراء بعض الصيانة ثم انتقل بعائلته من آخر شقة سكنية ضعن إليها بعد الشقق المتتالية التي أكمل في سكناها بالتوالي مدة ستة عشر عاماً مضت، إلى أن اشترى هذا البُويت الصغير الذي لا تزيد مساحة أرضه عن 100 متر مربع - بل هي أقل بمتر أو مترين -، وهو في نفس الأرض التي كانت أمّ صديقنا هذا تملكها كإرث من والدها، حتى اشتراها قبل عدة سنوات ابن عمّها، وهو أحد إخوة زوجها، وتقع هذه الأرض غرب البيت الكبير حيث كانت تسكن مع زوجها وأولادهما من البنين والبنات في الدور السفلي، وكان عمّها وأبنائه وبناته يسكنون في الدور العلوي من هذا البيت الكبير، بإحدى الحارات الشعبية بمدينتهما القديمة.

يقول لي هذا الصديق:

- "بعد عدة سنوات، كنت جالسًا بأحد مجالس أحد الأقارب وكان أحد الأعمام غير العم الذي اشتريت منه البويت الصغير، وعندما جاءت سيرة شرائي لهذا البيوت تحدث هذا العم بشيء من الامتعاض وقال بما معناه:

- الخطأ اللي ارتكباه أخوي هو بيع بيته بهذا السعر الرخيص.

يقول صديقي هذا:

- "لقد أثّرت فيَّ هذه الكلمات وانغرزت في قلبي كأنها السهم المنطلق من نبلٍ حاقد، حتى مزّقه تمزيقًا كاد أن يؤدّي بي إلى الهلاك، وبقي جرحًا من أصعب جراح القلب التي كلّما حاولنا رتقها زادت اتّساعًا، كما يقول أحد الأدباء.

ويتابع صديقي قوله:

- لم أكن أتوقع أن يقول هذا العمّ - المحترم جدًّا - هذه الكلمات المؤذية كأنني لا قيمة لي عنده إطلاقًا، وبالتالي لا أستحق أن أشتري هذا البُويت الصغير لأسكن فيه مع عائلتي الصغيرة بعد سنوات طويلة من «الشحططة» من شقة إلى شقة.

وكأنني لا حظَّ لي أن أملك بويتًا صغيرًا في هذه الحياة؛ وبذلك أشعر باستقلالي واستقلال عائلتي عن التبعية لأصحاب العقارات من العمارات والبيوت؛ ومن ثم لا أئنُّ من مرارة مطالباتهم لقيمة استئجار الشقق منهم.

وكأنني قد ارتكبتُ جرمًا لأن والدي توسط عند أخيه حتى لا يبيع البيوت الصغير لشخص غريب ونحن كعائلة أقرب للشراء من غيرنا الغرباء، ووالدي إنما أراد الخير للطرفين، الخير لأخيه لبيعه هذا البُويت الصغير لابن أخيه بسعر معقول وأقدر على توفيره، والخير لي لأحظى بهذه الفرصة الكبيرة لتملك هذا البيوت الصغير وأشعر بشيء كبير من السعادة ولو كان بُويتًا صغيرًا إلا أنه أفضل من البيوت والشقق المستأجرة.

وكأنني لست ابن أخيهِ أبدًا؛ ولو كنت ابن أخيه لكان يجب عليه أن يحبّ لي الخير دائمًا بحكم القرابة وبحكم العُمومة التي تأمر بها الأخلاق اٌلإسلامية؛ بأن تكون عمومة مبدئية وقِيَميَّة وليست عمومة نَسَبِيَّة فقط، والذي اتضح من تصرف هذا العمّ أن عمومته لا تحترم مكانتها.

ويواصل صديقي قوله:

- وأنا حزين جداً منذ تلك الجِلسة بذلك المجلس، وكان فيه هذا العمّ للأسف الشديد، ولا زالت جراح تلك الكلمات غائرةً في صدري، بل في أعماق نفسي إلى يومنا هذا.

الروائياتي:

- هذا التصرّف الغريب من أحد أعمام صديقك الذي ذكرته لا ينبغي أن يصدر منه، وكان من المفترض أن يبارك له في شراء هذا البيوت الصغير، بل كان من الواجب عليه أن يعرض عليه المساعدة لإجراء ما يتطلّبه من أيّ أعمال صيانة ضمانًا للاستقرار فيه.

المسك:

- على حدّ علمي؛ لا.. لم يفعل ذلك مطلقًا، ولو فعل لكان يتعجب من عرضه هذا كما يتعجب البشر من عجائب الدنيا السبع، إذ ربما يكون عرضه هذا بمثابة العجيبة الثامنة.

الروائياتي:

- يُذكرني هذا الموقف بأمثلة في عوالم الأدب الإنساني عبر التاريخ، حول سوء تعامل العمّ مع أبناء أخيه، سواء لسبب الطمع في المال، أو بسبب الغِيرة لتمتع أولاد أخيه بأموال أبيهم، أو لأنه يكرههم لأيِّ سبب من الأسباب، فمن بين الأعمال الأدبية التي تناولت موضوع سوء تعامل العمّ مع أبناء أخيه، يأتي في الذهن مثال من الأدب العالمي، وتحديدا مسرحية ”الملك لير“ لوليام شكسبير، رغم أنها لا تتحدث مباشرة عن عمٍّ وأبناء أخيه، إلا أنها تحتوي على عناصر مشابهة تتعلق بالطمع في الممتلكات العائلية وتأثير الخيانة على العائلة، وإن لم يكن مضمون قصة صديقك مع عمّه هو طمعه في مالِه أو في البويت الصغير وإنما هو استخساره أن يملك صديقك ذلك البيوت الصغير وأسفه على موافقة أخيه أن يبيعه هذا البيوت بسعر منخفض - حسب رأيه - وكأنه يتمنى أن يبيعه إيّاه بسعر عالٍ يرضي غروره وطموحه الخاص - وأنتم تقولون في أدبياتكم الشعبية مقولة لها مغزى مشابه لذلك وهي: ”ما يرحم ولا يخلي رحمة الله تنزل على أحد“ -، وهذا تصرف نفسي عجيب فهو يطمع في أن يَكسب شفيقه مالاً زائداً من صديقك، لأنه لا يرى أهمية أن يكون صديقك قد كسب صفقة الشراء، بل يرى أهمية أن يكون شقيقه هو الكاسب وهذه من أرذل صفات البخل لا للذَّات وإنما لذاتٍ أخرى أيضاً، وهي بالفعل صفة عجيبة من الرذائل، والمثال الذي أطرحه هنا هو مسرحية ”الملك لير“ لـ وليام شكسبير، ففي هذه المسرحية، يقرر الملك لير تقسيم مملكته بين بناته الثلاث، بناءً على مدى تعبير كل واحدة منهن عن حبها له، لكن اثنتين من بناته، ريغان وغونريل، تعاملانه بخيانة وجفاء بعد حصولهما على جزء من المملكة، فيما الابنة الصُغرى، كورديليا، التي أحبته بصدق ورفضت المبالغة في التعبير، فيتم نبذها في البداية، فتتكّون حالة من الطمع في السلطة والثروة؛ فالبنات الأكبر ريغان وغونريل، كان لديهما طمع في المملكة وثروة والدهم، مما أدى إلى خيانة علاقتهما الأسرية به، أما عن الآثار الاجتماعية فهذه الخيانة تؤدي إلى انهيار النظام الأسري، وتصبح العلاقات مليئة بالصراع والخيانة، ويظهر هنا تفكك العائلة وتحوّل العلاقات إلى صراع على الثروة والسلطة، أما من الآثار النفسية فتتدهور حالة الملك لير العقلية، مما يؤدّي به إلى الجنون نتيجة شعوره بالخيانة وعدم الوفاء من بناته الأكبر، مما يعكس تأثير السلوك الجشع على الصحة النفسية.

وفي مثال قصة صديقك مع عمّهِ نرى الأثر الاجتماعي واضح في قلق التعامل مع هذا العمّ من الناحية الاجتماعية كالتواصل من حيث القلّة، وكذلك الأثر النفسي الذي لا يزال محفوراً في أعماق نفس صديقك الذي قصصت لنا قصته في شراء بويته الصغير من عمه.

كما نقرأ رواية ”الإخوة كارامازوف“ لفيودور دوستويفسكي، وفي هذه الرواية نرى شخصية الأب فيودور كارامازوف الذي يسوء تعامله مع أبنائه، وخاصة في توزيع الأموال والميراث، حيث يتصف بالأنانية والجشع، ويرى في أبنائه عوائق أمامه وليس أفراداً يستحقون العناية أو الحماية، وبالتالي تبرز حالة الطمع والخيانة العائلية، فالأب يحاول استغلال أبنائه لتحقيق مصالحه الخاصة ولا يهتم بمصالحهم أو مستقبلهم، أما من ناحية الآثار الاجتماعية فيؤدّي هذا الوضع إلى تفكك العائلة ودخول الأبناء في صراعات داخلية وأزمات نفسية تؤدي إلى ارتكاب الجرائم في النهاية، أما من الآثار النفسية فيتمتع الأبناء بشخصيات معقدة، تعكس شعورهم بالرفض والإهمال، مما يؤدي إلى شعورهم بالدونية والعجز أحياناً، وأحياناً بالعدوانية والرغبة في الانتقام.

وفي رواية ”أولاد حارتنا“ لنجيب محفوظ، هناك عدة شخصيات تتصارع على السلطة والميراث، من بينها شخصية ”إدريس“، الذي يمثل نموذج العم أو الأخ الشرير الذي يطمع في أموال وميراث عائلته؛ وفي بداية الرواية، يحاول السيطرة على ثروات والده بوسائل غير نزيهة، وهنا تبرز حالة الطمع لدى إدريس حيث يحاول استغلال علاقته العائلية للحصول على الأموال والممتلكات، ومن ناحية الآثار الاجتماعية تنعكس هذه الخيانة والطمع في تفكك الأسرة وتمزقها، وخلق حالة من الشك والعداء بين أفراد العائلة، أما من حيث الآثار النفسية فالأبناء يتأثرون بشكل كبير من هذا التعامل، حيث تنشأ لديهم حالة من عدم الثقة والخوف من الآخرين ومنهم الأعمام، وقد يصل الأمر إلى الشعور بالعزلة والانفصال عن العائلة والمجتمع.

أما عن الآثار النفسية والاجتماعية لسوء التعامل من العم مع أبناء أخيه، فالآثار النفسية منها: القلق والشعور بعدم الأمان حيث يشعر الأبناء بالتهديد من أقربائهم، مما يؤدي إلى انعدام الثقة في الأشخاص المحيطين بهم، وكذلك الشعور بالدونية أو الكراهية الذاتية حيث يبدأ الأبناء في الشعور بأنهم أقل شأنا بسبب معاملتهم السيئة من العم، مما يؤثر على تقديرهم لذاتهم، وكذلك الشعور بالعدوانية والرغبة في الانتقام بحيث قد يشعر الأبناء بالحقد تجاه العمّ، وكذلك من الآثار الاجتماعية: تفكك الروابط الأسرية حيث إن سوء التعامل من الأعمام تجاه أبناء أخيهم يؤدي إلى تدمير العلاقات العائلية ويخلق أجواء من الصراع والعداوة داخل الأسرة، إضافة إلى الانعزال الاجتماعي حيث يتجنب الأبناء التواصل مع أفراد العائلة أو المجتمع خوفًا من الخيانة أو الطمع، مما يعزز لديهم الشعور بالعزلة، وكذلك تبرز لديهم صفة فقدان الثقة في المجتمع، فعندما يتعرض الأبناء للخيانة أو الطمع من أقربائهم، قد يفقدون الثقة في النظام الاجتماعي، مما يؤثر سلبًا على علاقاتهم الاجتماعية خارج نطاق العائلة، وإن كان المثال الذي طرحته لا يصل إلى العديد من الأمثلة التي ذكرناها ولكنها مقاربة لها من حيث التأثير المباشر وغير المباشر الذي حدث مع صديقك في القصة التي ذكرتها.