آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 4:46 م

الذَّاتُ وجدليَّة التَّأثِير

قراءة في رواية ”كل الأشياء“ لبثينة العيسى

محمد الحميدي

داخلَ كلِّ إنسان، ثمَّة رغبةٌ جارِفة؛ هدفُها الحصولُ على التقدير، من أجل تحقيقِ الذات، وإعطائِها مكانة واحتراماً، إذ تتقاطعُ وتتداخلُ مع الهُوية، التي سيبذلُ الغالي والنفِيس، في سبيلِ إظهارها، والتأكيدِ عليها، والفخرِ بها؛ مهما تعرَّض للشتم، أو الضرب، والإقصَاء، لكنَّ ما حصل معَ ”جاسم عبد المحسن العظيمي“؛ أجبرهُ على اتِّخاذ قرارات مُعاكسة لرغبتِه، حيث ردَّ على والدهِ السياسي المحنَّك، بمقالٍ ناري؛ تسبَّب في إيداعِه السجن، بتُهمة التحريض والتأليبِ على النِّظام؛ ليخرج منه محطَّماً، فاقداً الهُوية والهدف، قبل أن يهرُب إلى ”لندن“؛ بحُجة ”إكمال الدراسة“، تاركاً وراءه ”كلَّ الأشياء“ الثمينةِ؛ وطَنه، عائِلته، حبيبَته، ولا يعودُ إلا عندَ سماعه بنبأِ وفاة والدِه.

دانة وجاسِم

من طُرُق الحصولِ على المكَانة وتحقيقِ الهُوية؛ المشاركةُ في المظاهرات المطالبةِ بتحسين مُستوى الخدمات، وتوسِيع التمثيل السياسِي؛ فجاسم وبتحريضٍ من ”دانة داود“، حملَ على عاتقه كتابةَ المنشورات وتوزيعَها، والدعوةَ إلى المظاهرات، والمشاركة فيها، ضِمن مجموعة من الأصدقاءِ، الذينَ بينه وبينهم توافقٌ في الأفكار والاتِّجاه؛ ما أغضبَ والده، وجعلهُ يصفهم بـ ”أطفال السياسة“؛ لأنَّ ما يسعونَ إليه، لا يمكنُ أن يتحققَ في القريب، ومن الأفضلِ الانتظار.

حينما يلتقيانِ في المنزلِ، تبدأُ المناوشاتُ بين الابنِ وأبيه، الذي ينفعل ويخاطبه ”يا ولد السّو..“، مُطلقاً الكثير من الشَّتائم ضِده، وضِد المتظاهرين؛ إذ في رأيه سيخرِّبون البلد، ويجرُّونه إلى هاويةٍ سحيقة، عبرَ إدخاله معاركَ لا فائدة منها، ولن تُحدث أيَّ تغيير، وهوَ ما استثمره جاسِم؛ حيث أمدَّه بزخَم انفعاليٍّ موازٍ؛ ساعده في كتابةِ ردوده، على مَقالات والدهِ المؤيِّدة للنظام.

إحدَى الردودِ التي نشرَها عبر الصَّحافة، أثارت لغطاً كبيراً، فقد اعتُبرت مسًّا بالنظام، وتحريضاً عليه؛ لهذا تم إمساكُه، والتحقيقُ معه، ليصدر حكمٌ بحبسه لـ ”عامين“، تعرَّف خلالها على حياةِ السجن من الدَّاخل، مثلما أعاد التعرُّف على ذاته، التي وجدها محطَّمة، مشتَّتة، مضطرِبة، ومن أجل ترميمِها، وزيادة تماسُكها؛ اشترى ”هاتف نقال“، مخصِّصاً المكالمات؛ يوماً لوالدته، ويوماً لحبيبته؛ حيث توثَّقت علاقتُه بها، ولم يعد قادراً على الابتعادِ عنها.

أحدثَ البقاءُ في السِّجن شرخاً عميقاً في نفسِه؛ إذ أظهر أمامَ عينيه عيوباً طالما تجاهلَها، فعند مكالمتِه لأمه يبدو متماسكاً، قويًّا، متحكماً في أعصابه، لا يهابُ السجن دفاعاً عن مبادئِه، لكن مع حبيبته تنكشفُ شخصيته المضطرِبة، المشتَّتة، الفاقدة لأعصَابها، المثيرة للمشَاكل، فيشكُو تكرار إيداعِه الحبسَ الانفرادي؛ نتيجة الانفعالِ الزائد، وعدم التحكُّم وضبطِ النفس، وحينَ تنصحه بالهدوءِ، والتزام السلوك المتَّزن؛ تتكرَّر فوضاهُ، ويتكرَّر حبسُه الانفرادي.

خرجَ بعفوٍ بعدَ ”ستة أشهر“؛ منهاراً، محطماً، فاقداً للرغبة في التواصلِ مع جميعِ الأشخاص، خصوصاً والده، الذي اعتبرَه مسؤولاً عن دخوله السِّجن؛ بسبب عدم تدخُّله لإخراجه، رُغم امتلاكه صِلات قوية، قادرةٍ على إنقاذِه، فحدثت قطِيعة تامَّة بينهما، ولم يعودا يتحدَّثان، أو يجلسان معَ بعضهما، رُغم محاولات الأمِّ المتكرِّرة، تهدئِة الأجواء المتوتِّرة؛ لهذا قرَّر السفر، وإكمَال دراسَته في الخارِج، حيث قُبل طلب انضمامِه إلى إحدى الجامعاتِ البريطانية.

العدولُ عن السَّفر، لم يكُن خياراً مطروحاً على الطاولة، فحينما أخبرَ دانة، وحاولت إقناعَه بالبقاء، ومواصلة النِّضال؛ أصرَّ، وتمسَّك برأيه، وأعلن أنَّ ”علاقتهما لا يمكن أن تستمر“؛ ما تسبَّب في إصابتها بصدمةٍ نفسيَّة، بالكاد أخفَت آثارها، لتبدو قويَّة، ومتقبِّلة للقرار، بينما في داخلها تمنَّت أن يتراجَع، ويدرك خطأَه؛ إذ قرارُ رحيله وليدُ انفعاله، وليس نتيجةَ تفكيره!

بقيَ أربعَ سنواتٍ في لندن؛ أهملَ خلالها كُل ما يتعلَّق بوطنِه، وعائلتِه، وحبيبتِه؛ فأصبحَ يتشاغل عنها، ولا يردُّ على رسائلها، وحينَ وصله نبأُ وفاتها! أغرق نفسه في الشراب، ودخلَ نوبة سُكر؛ ”أفاق منها بعد ثلاثة أيام“، ليواصلَ حياته، كأنَّ شيئاً لم ينكسر، بينَما في داخله؛ ظلَّ يُخفي ضعفَه، وتشتُّته، وهزيمَته.

لم يُشارك في عزاءِ حبيبتِه، ولم يُرسل إلى عائِلتها معرباً عن أسفِه، بل كَابر، وأخفى مشاعِره، وأصرَّ على عدمِ العودة؛ حتَّى لا يُواجه تاريخه غير المشرِّف، في ارتكابِ الأخطاء، وإهمالِ من يستحقُّ الاهتمام، لكنَّ ذلك تغيَّر، حينما علِم بموت والده؛ إذ اُضطر للعودة، وتلقِّي العزاء، فانفتحَت الجراحُ القديمة، وعلى رأسِها علاقتُه بدانة.

دانة وراكَان

الفتاةُ التي أحبَّته، ودافعَت عنه، ووقفَت إلى جِواره، لكنَّه خذلها، وحطَّمها، وأنهى علاقته بها، استمرَّت في مراسلتِه، على أملِ إقناعه بالرُّجوع، ومُواصلة حياتهما سويًّا، إلا أنَّ تأخُّره في الرُّدود، وإهمالَه إجابة كَثير من رسائِلها، أجبرَها على اكتشافِ خياراتها الأُخرى في الحيَاة، فليس من الحكمَة؛ أن تتمسَّك بشخص يرفضُها، ويتحاشى الردَّ على رسائلها، فانكبَّت على عملها، وتعرَّفت هناك على ”راكان“، وأُعجبت به، وكانَ من المنتظرِ إعلان خُطوبتهما، لولا وصولُ صورٍ فاضحة لها على ”إيميله“! ليكتشف لاحقاً وصول الصُّور إلى جميعِ إيميلات الإدارة.

تسبَّبت الفضيحةُ في نقلِها من قسمٍ إلى قسم، كَما أنهت علاقتَها براكان، لكنَّها تماسكت، وتمكَّنت سريعاً من تجاوزِ ما حصل، فمنعَت تأثِيره على حَياتها، ثم فُوجئ الجميع بنبأِ دهسها! وهُروب الجاني، لتموتَ متأثِّرة بالإصاباتِ التي لحقتها؛ ما أحدثَ صدمة لدى زُملائها، وخصوصاً راكان، الذي ”تغيب لمدة أُسبوع عقب الحادثة“، اجترَّ خلاله ألمه، وحُزنه، وحينما عاد؛ اتَّضح تأثُّره؛ إذ اختلفت تصرُّفاته، وكلماتُه، وحياتُه، ولم يعد المرِح، الباسِم، المُتفاعِل مع الآخرين، فانتظرَوا عودته إلى طبيعتِه، لكنَّهم فُوجئوا بوفاته!

تداولَت الصحافةُ مأساةَ راكان، وكَيف أنهى حياتَه ”عبر ابتلاعه كمية كبيرة من الحبوب المنومة“؛ نتيجةَ صدمة عاطفية، إثرَ رحيل حبيبتِه التي سيتزوَّجها، وما أكَّد القصَّة؛ قِصَر المدة الفاصلةِ بين رحيلِ الاثنين، حيثُ لم تتجاوز ”سبعة وخمسين يوما“؛ ما أثار شُكوك جاسم، الذي لم يقتنِع بروايةِ صديقه الحميمِ ”نايف“، فقررا البدءَ في إجراء تحقيقاتهما الخاصَّة؛ ليتأكَّدا من وُجود غموضٍ يلفُّ تفاصيل الحادِثة؛ إذ دانةُ لا يمكن أن تُدهس في المواقِف؛ لأن مساحتَها لا تسمحُ بالسرعة العَالية، بينما راكانُ من الصَّعب أن ينتحرَ؛ لاهتمامه بصحتِه، ومحافظتِه على صلاتِه.

توسَّعت التحقيقاتُ، وكشفَت عن أُمورٍ أخطرَ مما توقعاهُ، فالمسألة لم تعُد محصورة في دانةَ وراكان، اللذان حِيكت ضدهما مُؤامرة؛ لمشاركتهما في فضحِ ”صندوق مالي، تُستثمر عائداته“ في تطوير البنيةِ التعليمية للمدارسِ والجامعات؛ إذ استمرَّ بتلقِّي الأموال منذُ إنشائه ”بعد التحرير بسنة عام 1991 م“، دُون أن يكُون له وجودٌ واقعي.

تمَّ ”تصعيدُ الأمر إلى النِّيابة“، كَما شُكلت لجنةٌ للمتابعةِ؛ تكوَّنت من ”أربعة أشخاص، ضمتها وراكان والمدير ونائبه“ استمرَّت لعام كاملٍ؛ جمعَت خلاله الكَثير من البيَانات، واكتشفت العديدَ من التجاوزات، لكنَّ الموضوع أُقفل، كما حُلَّت اللجنة المكلَّفة، بعد انتشارِ صور دانة؛ ما جعلَ جاسم يسألُ نفسه: ”هل قُتلت دانة أم ماتت بحادثة دهس؟“ وهل قُتل راكان أم انتحر؟

عائلةُ راكَان لم تصدِّق انتحارَه، لكنَّها احتفظَت بشكُوكها لنفسها، إذ ليسَ بيدها شيءٌ تفعلُه، لذا حِين تواصلَ معها، وأخبرها بالمعلوماتِ التي لديه؛ بُعث أملُها بإعادة الاعتبارِ إليه، ومحوِ عار الانتحارِ عنه، فاستضافتهُ، وأعطتهُ أوراقه وملفَّاته، ليكتشفَ احتفاظه بنُسخة من ”أرشيف عمله“، فحملَه، وبدأ في مراجعتِه.

وجدَ أدلَّة تدينُ ”شخصيات كبيرة ونافذة“، ظلَّت تحصلُ على دُفعات مالية صَغيرة، عبر حِساب بنكي، بلغ رصيدُه ”مائتي مليون دولار“، فنشر مقالاً؛ احتوى جميعَ الحقائق التي توصَّل إليها، ليتم القبضُ عليه، ويمنعُ من السفر؛ بحجَّة وجودِ ”دعوى جنائية ضده“.

جدليَّة التأثِير

التاريخُ المشتركُ من الصَّداقة؛ منحَ نايف قدراً كبيراً من التأثيرِ على جاسم؛ حيث استضافَه، وأبقاه في شُقَّته بعد الإفراجِ عنه، لحين استكمال أوراقِ ابتعاثه، كما ظلَّ على تواصُل معه، وأمدَّه بالمعلومات التي احتاجَها، بهذا تمكَّن من إقناعَه، عند عودتهِ للعزاء، بوجُود سر وراءَ موت دانة، ثم تركَه يلاحقُ الأحداث، إلى أن اكتشفَ الحقيقة، مدركاً معها مِقدار حُبِّه، وتسرُّعه في تركها، هيَ التي ساندتهُ، ووقفَت معه، ولم تتركهُ حتى بعد سجنِه، بينما لم يكُن قادراً على الزواجِ منها؛ لوجودِ فوارقَ طبقيَّة، منعت عائلتهُ من مصاهرةِ عائلتها، ما تسبَّب في حُدوث صِراع نفسيٍّ بداخله.

بدأَ الصراعُ ينمُو بنموِّ الأحداث، فدانةُ التي وقفَت إلى جانبه، وساعدتهُ في أحلكِ ظروفه، وأمدَّته بالمشاعر الدَّافئة؛ ليكملَ طريقه، ويثقَ بنفسه، يقابلُها إهمال عائِلته، وسخرية أبيهِ من أفعاله، وأفعالِ أصدقائه، وتحذيرهم من الانجرارِ وراء عواطفِهم؛ ما وثَّق علاقته بدانة، وأضعفَ علاقته بعائلته، لكنَّ ضغوط العادات والتقاليد؛ أجبرتهُ على الالتزامِ بما يمليه الواجبُ الاجتماعي، لتكونَ النتيجة اضطِرابه، وتوتُّره، واختياره الحلَّ الأسهل؛ المتمثِّل في الهربِ من واقعه ومشاكلِه، عوضَ مواجهتها والتغلُّب عليها، فانفصلَ عن دانة، ولم يُحسِّن علاقته بعائلتِه.

تكوينٌ نفسيٌّ مضطرب، فهو ضعيفُ الشخصية، وغيرُ قادر على اتِّخاذ قرارات مستقلَّة؛ لذا يسهلُ التأثير عليه، مثلما فعلَت دانة، حين شجَّعته على المشاركةِ في المظاهرات، ثم الكتابةِ والردِّ على والدِه، وأخيراً نشر المقالِ في الصَّحافة، أو نايف الذي شجَّعه على اكتشافِ الحقيقة، ثم الكتابةِ عنها، وأخيراً نشرِها ”وفاء لذكرى دانة“ وراكَان.

بقاءُ جاسِم في السِّجن، دفعهُ للتخلِّي عن كُلِّ الأشياءِ التي حارب من أجلِها؛ نِضاله، وشَغفه بالكتابة، ودَانة، التي ظهرَت الفوارقُ بين شخصيَّتها وشخصيَّته، فلم تترك النِّضال السياسي، ولم تهرُب من عملِها عَقِب فضيحةِ الصور، ولم تتراجع عن مبادئِها حينما اكتشفَت التلاعُبات المالية، حيثُ رفضت مُساومة المتورِّطين، والحصول منهم على مكَاسب ماديَّة، في مُقابل إيقافٍ التحقيق.

افتقدَ جاسِم مِيزةَ التأثير، حتَّى على نفسه، فلم يتوقَّف عن الشُّرب، رُغم معرفته بوفاةِ دانة، التي استطاعت التأثيرَ عليه قبل دُخوله السجن، مثلما حَاولت التأثيرَ عليه بعد خُروجه منه، ولولا صدمتُه واضطرابُه النفسيُّ؛ لاستجاب لها، كما استجابَ زميلُها راكَان، حين أقنعتهُ بضرورة التبليغِ عن التلاعُبات المالية، والمُضي بها حتَّى النهاية.

الرجلُ المهزوزُ، الضعيفُ، المنغمسُ في اللهو، والمحتاجُ إلى المساعدةِ، في قِبال المرأة القويَّة، الرَّاسخة على مبادئِها، القادِرة على إدارة شؤونها، المؤثِّرة في محيطها، المهتمَّة بما يحدثُ فيه، والرَّاغبة في تطويره؛ صُورتان متناقِضتان ترسُمهما الرِّواية، لتأديةِ وظيفة ثقافيَّة، تتمثَّل في الاحتجاجِ الصَّارخ على العُنصرية، القائِمة على التمييزِ الجنسي، الذي يقودُ لحرمانِ الأُنثى من حُقوقها، وعدمِ مساواتِها بالذَّكر.

ختاماً

تأثيراتُ الأفرادِ لا تنتهِي بموتِ أصحابِها أو غيابِهم؛ حيث جاسِم ”أحس بنفسه يتضاءل أمام الجهد الذي بذله كل من راكان ودانة؛ لأجل تصويب ما هو خاطئ، وتسبب في دفعهما ثمناً باهظاً، تمثل في فقدانهما لحياتهما“، لهذا استطاعا التأثيرَ فيه، وإعادته إلى الكتابَة، مع توقُّف نموهما وتطوُّرهما، وهي مِيزة افتقدها، رُغم أنَّه الشخصيَّة المحوريَّة، التي تمرُّ عبرها جميعُ الأحداث، فلم يستطع تغييرَها، أو التأثيرَ فيها، واستمرَّ كمتلقٍّ سلبي، أو في أفضلِ الأحوال؛ مُشاركٍ في كشف الأسرارِ والخفايا، حينما يُستثار، أو يدفعهُ أحد.