آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 4:46 م

أبي الذي علّمني معنى المروءة

عقيل المسكين *

ذات يوم والشمس توشك أن تغرب في الأفق، وكنا في بيتنا بالديرة ننتظر صلاتي المغرب والعشاء؛ ثم تضع والدتي عشاءنا الذي سنتناوله في غرفتنا، أو في صالة الدور السفلي من البيت العود، وأتذكر ذلك في العام 1399 هـ وكنت حينها في السادس الابتدائي، فجأة طُرق الباب الغربي، فخرج والدي لفتح الباب، وإذا بأحد الشباب يدخل وهو خائف، ويكاد من شدّة خوفه أن يبكي، حيث يضع يده اليمنى على جبهته ممن شدّة الإجهاد وتعب الجري، فهدأه والدي وقال لي:

- مالك يا ابني؟.

فقال الشاب:

- معذرة يا عم، هناك من يلاحقني، أرجو إغلاق الباب بإحكام، أنهم يريدون ضربي وأنا لم أفعل لهم أيّ شيء.

فقال له والدي:

- من هم هؤلاء يا بني؟.

فقال الشاب:

- لا أعرفهم، أنا كنت أمشي في حال سبيلي، وقد حاولت منعهم من إيذاء الآخرين، ولكنهم لاحقوني يريدون ضربي.

فذهب والدي تجاه الباب وأقفله بالمفتاح، ثم قال:

- تعالْ.. تعالَ معي إلى المجلس واهدأ ولا تخف، أنت هنا بأمان.

وأخذه والدي إلى المجلس، ثم أمرني أن أحضر الضيافة، وبالفعل ذهبت لوالدتي وأعطتني الشاي، والصحن الذي به ”الإستكانات“، ثم ذهبت لإحضار دلة القهوة والفناجين، وصحنٍ من الرطب، و«جَيكٍ» مليء بالماء البارد، وكأسٍ زجاجيٍ لشرب الماء.

بعد ذلك خرج والدي من الباب الشرقي للبيت العود، ليقوم بالدوران خلف البيوت ليذهب جهة الباب الغربي للتأكد من عدم وجود أيٍّ من هؤلاء الأشقياء الذين ذكرهم ويريدون الأذى بهذا الشاب البريء، وبعد أقلّ من 5 دقائق، عاد والدي، وقال للشاب:

- لا تقلق لا يوجد أيّ أحد مشبوه لا في هذه الجهة الشرقية، ولا في الجهة الغربية، والطرقات لا يوجد بها إلا المارّة من الرجال والنساء العائدين إلى بيوتهم من الأهالي وهم من أبناء ديرتنا.

وبعد أن جلس الشاب بعض الوقت حيث تناول الشاي وشرب القليل من الماء، ثم قام استعداداً للخروج، وصاحبه والدي للطريق حتى أمِن العودة إلى منزله وهو في حالة من الاطمئنان والسكينة.

هذا التصرّف الذي قام به والدي مع هذا الشاب الذي لا نعرفه مطلقًا، إلا أنه من سيماء وجهه وطريقة كلامه عرفنا أنه من إحدى القرى المجاورة ولعلّ له بعض الأقارب في سيهات، وقد أعجبت أيّما إعجاب بهذا التصرف الإنساني الذي قام به والدي، ولم يفعل هذا الفعل إلا استجابة لضميره الحيّ وفطرته الصافية وأخلاقه الحميدة، وهذا التصرف يعتبر من مصاديق المروءة التي عُرف بها والدي - رحمه الله -، وينطبق عليه قول الحطيئة في اصطناع البر:

منْ يفعلِ الخيرَ لا يُعدم جوازيَهُ

لا يذهبُ العُرفُ بينَ اللهِ النّاسِ

هذا ما حدث بخصوص هذا الموقف، وهناك موقف آخر مشابه، ولكنه وقع في «بيت الفردوس»، والذي يقع بجانب مقر مخابز العيد على الشارع العام، ففي إحدى السنوات - وكنت وقتئذٍ بالمرحلة المتوسطة - طرق أحدهم باب البيت قبل أذان الظهرين، وعندما قمت بفتحه وإذا بشخص غريب يلبس شماغاً ولكنه ليس شماغاً أحمراً كالذي نلبسه في المملكة، بل هو شماغ ولكنه مزركش بالأسود كالذي يلبسه العراقيون، وبالفعل عندما جاء والدي من داخل البيت وقف أمام الطارق وصارا يتحادثان قليلاً، وإذا بأبي يأمرني بفتح باب المجلس الثاني للشقة الثانية اليُمنى، لأننا نسكن في الشقة اليسرى الملاصقة لجدار مخابز العيد، وذهبت لأمي وأخذت المفتاح للشقة اليمنى وفتحت باب المجلس، وإذا بأبي يُدخل هذا الرجل ومعه عائلته المكونة من زوجة وبضعة أطفال من البنين والبنات، ومعهم بعض الحقائب، ودخلوا كلهم ثم أمرني أن أضيّفهم وذهبت لوالدتي وأعطتني اللازم لتضييفهم من شاي وقهوة وماء وبعض المكسرات والمقبلات الخفيفة من بسكويت وبعض الكعك - كما أتذكر -، وقد سمعت والدي يتحدث مع أمي:

- هؤلاء من عابري السبيل، جاؤوا من العراق عن طريق الكويت وهم يقصدون مكة للعمرة ولم يجدوا في طريقهم أي فندق أو مكان يستريحون فيه ليواصلوا طريقهم، ومن الواجب أن نستضيفهم ونقوم باللازم تجاههم.

وقد جلست هذه العائلة في المجلس من الظهر، حيث قمنا بتقديم وجبة الغذاء لهم، إلى وقت المغرب، ثم قاموا للصلاة المغرب والعشاء وبعد ذلك ذهبوا لحال سبيلهم قاصدين مكة بعد أن ودّعونا بالتحية والسلام والشكر، وكان والدي يقول لهم:

- مع ألف سلامة، وتوصلون سالمين غانمين إن شاء الله.

هذان الموقفان لا زلتُ أتذكرهما وهما منقوشان في جدران ذاكرتي إلى يومنا هذا، رغم بساطتهما إلا أنهما يُدلّان على خلق كريم يتحلّى به والدي، وشعرت بمعنى هذا الخُلق الإنساني الذي تعلمته منه، وما إن أتذكره إلا وتكبر شخصية والدي في ذاتي، حيث زرع في شخصيتي المعنى الحقيقي للمروءة في تعامله مع الناس وقد جسّدها والدي - رحمه الله - بهاذين الموقفين الإنسانيين، ولو كان يملك المال والثروة لكانت أفعال الخير التي يقوم بها أكثر من ذلك بكثير، ولكنه راضٍ ولله الحمد بما لديه، ويسعى قدر جهده لتحسين وضعه وأوضاع عائلتنا ولكن بالتي هي أحسن، وليس بالتي هي أسوأ.

الروائياتي:

- ذكرياتك عن والدك رحمه الله تعكس أسمى معاني المروءة والشهامة، وهو أمر يستحق التقدير والإعجاب، فالموقف الذي تصفه يجسد الأخلاق العالية والمبادئ الإنسانية التي يتعلمها الإنسان من والديه وينقلها بدوره إلى أبنائه، وهذا بالضبط ما حدث معك، وتأثرك بموقف والدك وزرعه لقيم المروءة في شخصيتك هو شهادة على أهمية القدوة الحسنة في تربية الأبناء، ومن أمثلة ذلك في الأدب الإنساني بشكل عام ما نقرأه في قصص العرب، حيث تُعتبر القصص العربية مليئة بالأمثلة على الشجاعة والمروءة، فعلى سبيل المثال، قصص عنترة بن شداد، الفارس العربي الشهير الذي يُعتبر رمزاً للشجاعة والكرم؛ حيث كان عنترة يُعلّم الآخرين الشجاعة ويدافع عن المظلومين، وفي نفس الوقت كان وفِيّاً لِقِيَمِه ومبادئه رغم الصعوبات، وفي سيرة عنترة بن شداد نجد كيف كان عنترة يتصرف بشجاعة ومروءة، وكيف تأثر بأخلاق والدته وأبيه، مما جعله فارساً نبيلاً يخدم الآخرين.

ونقرأ في الأدب الغربي أمثلة كثيرة ففي رواية «لقتل طائر بريء» لهاربر لي، في هذه الرواية الكلاسيكية نجد شخصية المحامي أتيكوس فينش، الذي يمثل رمزاً للشجاعة والأخلاق، ف أتيكوس يدافع عن رجل أسود متهم ظلماً في مجتمع مليء بالعنصرية، ويعلّم أولاده من خلال أفعاله ما يعنيه أن تكون شجاعاً وأن تقف إلى جانب الحق، وهذه الرواية تعكس بوضوح كيف يتعلم الأبناء من آبائهم، تماماً كما تعلمت أنت من والدك من خلال مواقفه مع الناس مباشرة كالمثالين اللذين طرحتهما. أما في مسرحية الملك لير ”King Lear“ لشكسبير، في هذه المسرحية الملك لير يتعلم دروساً قاسية عن الوفاء والخيانة من بناته، بينما تظهر ابنته الصغرى كورديليا كرمز للوفاء والحب؛ رغم أن القصة مليئة بالتراجيديا، إلا أنها تعكس كيف يتأثر الأبناء بأفعال آبائهم، وكيف يمكن للأخلاق والمروءة أن تكون منارة تهديهم.

ومن الرائع أن يكون للإنسان شخصيات يحتذي بها، ووالدك من دون شك كان تلك الشخصية الملهمة لك، مثل هذه المواقف التي ترويها، وهي ليست مجرد ذكريات، بل هي دروس حياتية ستظل ترافقك طيلة حياتك. مثل هذه القيم الإنسانية التي جسّدها والدك تنعكس فيك الآن، وستنقلها بدورك لمن حولك، سواء لأبنائك أو لمجتمعك، ولا شك أن والدك وقتئذٍ كان يشعر بالسعادة والمتعة وهو يقوم بهذه الأعمال الجليلة تماماً كما يقول الأديب الكاتب يوسف إدريس في روايته الشهيرة ”أرض النفاق“:

- ”متعة المروءة لا تعادلها متعة، ولذة الإحسان ومعاونة الغير لا تساويها لذة.. بشرط أن يكون الإنسان واثقاً من أنه قد وضع الفضل في موضعه“.

المسك:

- أحسنت.. وأشكرك أيها الروائياتي على هذا التحفيز الجميل.