الدكتور أسامة باقر الكشي: تجليات نورانية وإشراقات إيمانية
أسامة الكشي نهر عطاء متدفق في عالم الوجود الإنساني
غيب الموت واحدا من الذين تجلت فيهم الإنسانية بأعلى قيمها، والحياة الإيمانية العملية في علو درجاتها، فلقد كان وجودا طاهرا معطاء، يفيض بالحب والخير والعطاء على كل من كان له به تواصل من قريب أو بعيد.
الدكتور أسامة باقر عبد الله الكشي غادر عالم الفناء، ملتحقا بعالم الخلود بعد سيرة وضاءة، تجسدت عمليا في منهاج سلوكه وحياته.
غادر أسامة عالم الدنيا في أجواء غمر فيها الحزن قلوب كل من كان له معرفة بهذا الفقيد السعيد، فلقد غرس في حبوب الناس محبته بعمق، لأنه كان يتعامل معهم بحب وصدق وإخلاص.
هو تجسيد عملي لقول الإمام علي : ”مَنْ لَانَ عُودُه كَثُفَتْ أَغْصَانُه.“
وتجسيد عملي لقوله : ”خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً، إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ.“
فلقد كان كل من يعرفه يحن إلى لقائه، حتى لو كان لقائه به عابرا لمرة واحدة، وكذلك عم الحزن قلب كل من عاشره أو سمع بعظيم سجاياه وخصاله الحميدة.
وهو كذاك كان تجسيدا عمليا لقوله : ”مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَه وبَيْنَ اللَّه، أَصْلَحَ اللَّه مَا بَيْنَه وبَيْنَ النَّاسِ، ومَنْ أَصْلَحَ أَمْرَ آخِرَتِه أَصْلَحَ اللَّه لَه أَمْرَ دُنْيَاه، ومَنْ كَانَ لَه مِنْ نَفْسِه وَاعِظٌ، كَانَ عَلَيْه مِنَ اللَّه حَافِظٌ.“ كان حظه من هذه السجايا وافرا.
وهو تجسيد عملي لقول الإمام علي : ”أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْدِ.“
ولقد تجلت في سيرته وحياته صفات المتقين الذين وصفهم الإمام علي : ”فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، ومَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ، ومَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ. غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمْ، ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ. نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ، كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ. ولَوْ لَا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّه عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ. عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَه فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ. قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ.“
ولقد كان واقعا مثالًا عملياً لهذه الصفات التي تجلت في هذه المعاني العالية.
ونضع هنا كلمة الدكتور علي إبراهيم البراهيم في ذكرى مرور أربعين يوما على رحيله إلى عالم الخلود، وهذه الكلمة ترسم معالم شخصية الراحل، وما اتسمت به شخصيته من سمات جمة عالية.
لقد وصفه صديقه ورفيق عمره، الدكتور علي إبراهيم البراهيم في ذكرى أربعين رحيله بجملة من الصفات، عبر عنها بعد أن ذكر تطبيق الراحل لجملة من التوجيهات القرآنية في حياته الخاصة والعامة:
”لا عجب فهذه هي صفات المؤمنين وأحوالهم. إن فقد إنسان عرفته معرفة حقيقة تكشف عن معدنه الثمين وإيمانه الراسخ وخلقه الرفيع العظيم، لا يعد فقدا لشخصه فحسب، بل بفقده فقدنا صورة جلية صادقة تعكس الإيمان والتقوى والصلاح والأخلاق الفاضلة التي شهد بها في حقه القاصي والداني الكبير والصغير الرجل والمرأة...“
”أسامة الإنسان، أحبه الصغير قبل الكبير، والقريب والبعيد، فمع قلة وجوده في البلد ورؤية الناس له، إلا أن شخصيته العجيبة وتأثيره في من يراه أو يجالسه ولو لمرٍة واحدة، تترك أثرا بالغا لا ينساه من يجالسه أو يحدثه أو يلتقيه...“
”إنه السر العجيب في شخصية هذا المؤمن، الذي أحّبه الله، فكساه من نوره، وألقى المحبة له في قلوب الناس.“
" فماذا عساي أن أقول وأحكي عن مثله؟!!!!
هل أحكي عن تواضعه العجيب ونكرانه لذاته إلى درجة أنه كان يتوارى وينزوي عن أشياء كثيرٍة، هي له وهو أهل لها’ ومن حقه ويقدم غيره فيها على نفسه..."
”هل أحكي عن كتمانه لآلامه البدنية والمعنوية التي تخصه وتعنيه’ وإظهاره لآلام غيره ومعاناتهم، وتفاعله معهم بالمواساة والمشاعر الصادقة...“
”هل أحكي عن شدته في ذات الله، بحيث لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يرضى أن يذكر مؤمن في محضره بسوء أبدا...“
”أو أحكي عن لينه ورقة مشاعره حين يتألم لآلام غيره، أو تذكر له المواقف الإنسانية النبيلة... فكم من مرٍة أجده تدمع عيناه وأنا أنقل له مواقف، ربما قد تكون عادية ولكن هو ينظر إليها بشكلٍ مختلفٍ، فترق لها مشاعره وعواطفه’ فتنهمر دموعه... إنها الإنسانية الكبيرة التي لم أكن أعرفها إلا فيه....“
”هل أحكي عن ولعه وشغفه بالعلم والمطالعة والتحصيل، فهو الذي شقَ طريقه في مواصلة الدراسة في اختصاصٍ أحبه وآمن به، وكان بركة عظيمة عليّ أنا شخصيا في مسيرة الدراسات العليا، إذ لم أحتج يوما إلى مصدرٍ أو معلومة أو كتاب قديمٍ أو حديث أو دراسة علمية إلا أجدها عنده،؛ وإذا لم تكن عنده يسعى جاهدا لتوفيرها، فلذة البحث عن المعلومة عنده لا تعادلها لذة، فكم مرٍة استعصى عليّ الحصول على بعض الكتب أو الدراسات العلمية، فألجأ إليه فلا يهدأ له بال ولا يقر له قرار إلا أن يحصل عليها... ولا أنسى أبدا أنه في كل مرٍة ألتقيه في بيته أو يأتيني إلى البيت لا تكاد تخلو يداه من كتابٍ أو عدة كتب يتأبطها ليهديني إياها... إنه لا يجد أغلى وأثمن من الكتاب هدية وعطية فيقدمها ونفسه راضية فخورة، تعطي بلا ثمن...“
”هل أحكي عن مكتبته ومصادر المعرفة لديه، وهو الذي أفنى حياته منذ حداثة سنه في جمع الكتب، فكوّن مكتبة شخصية لا أعرف أحدا في عمره وإمكاناته يمتلك مثلها، وأتذكر أنني ألومه أحيانا ليتوقف عن شراء الكتب، فيقول لي: إذا لم أحتج إلى هذا الكتاب أو ذاك الآن فسوف يأتي الوقت الذي أحتاج فيه إليه، أو يحتاج إليه غيري، وكأنه يخطط لإرث عظيم مبارك يتركه للأجيال من بعده، وها هو قد تركه...“
”هل أحكي عن مدرسة الأخلاق العظيمة التي تفتح فصوَلها لطلابها أينما حل وارتحل فيتملى منها الصغير والكبير والقريب والبعيد على السواء، حتى أن كل من يلتقيه ولو لمرٍة واحدة عابرٍة تظل صورته عالقة في ذهن ذلك الشخص، تعبر عن حب واحترام عجيبين، وقد شهدت ذلك بنفسي بحكم علاقتنا وترددنا على أماكن كثيرٍة، وقد يحصل أن ألتقي أحيانا لوحدي بمن شاهدوه معي سابقا فيسألون عنه ويحملونني سلاما حارا له، وهم لم يلتقوا به إلا مرة واحدة، قد تكون مدتها دقيقة أو دقيقتين.“
”إنه السر العجيب الذي لا أستطيع تفسيره إلا بأن الله عز وجل قد كساه من حلل أنواره ففاض ذلك النور على الجميع....“
”هل أحكي عن تفقده وحرصه الشديد على متابعة أحوال من يعرفهم وأحوال مجتمعه فلكونه عاش غالب أيامه في الدمام، يظن الكثير أنه بعيد عن أهله وأحبابه ومجتمعه، وهو عكس ذلك تماما فقد كان يتابع دقائق الأمور وتفاصيلها، بل كان كثيرا ما يخبرني ويسألني عن أشياء في المجتمع، أتعرف عليها من خلاله وأنا الحاضر، وهو الغائب، لكن غيابه كان بالجسد فقط، لا بالروح والمشاعر.“
”إذا عرف إنسانا فإنه حريص أن يعرف عنه كل ما يعنيه ويرتبط به مما يعنيه أمره، وليس ذلك فضولا، أو تدخلا منه فيما لا يعنيه، إنما هو بالقدر الذي يشعر فيه براحة في نفسه وسعادة في قلبه.“
لقد أشار الدكتور علي البراهيم أإلى قوة اهتمام الدكتور أسامة بالعام والمعرفة، عندما علق على نيله لشهادة الدكتوراه قائلا:
”بحمد الله وتوفيقه وكرمه تمت في يوم الأحد الموافق 28/ يناير / 2024 م في كلية الآداب بجامعة الملك فيصل مناقشة رسالة الدكتوراه للأخ العزيز، والصديق الوفي، ورفيق الدرب، الأستاذ أسامة باقر الكشي الموسومة بـ «الاستراتيجية التلميحية في كتاب كليلة ودمنة دراسةً تداولية» في تخصص اللغويات مسار علم اللغة، وقد أجازت لجنة المناقشة الرسالة، وتم منح الباحث درجة الدكتوراه، وقد كان بحثه مميزا حاز على ثناء اللجنة المناقشة لما اتصف به من عمق علمي وكتابة أكاديمية رصينة، ولا غرابة في ذلك فقد عرفت الأخ العزيز أبا فاطمة محبا لطلب العلم والمعرفة جادا في البحث مثابرا شغوفا بالمطالعة، بذل في بحثه جهدا ينمّ عن شخصية علمية مكافحة ذي أناةٍ وصبر، حاولت تذليل الصعوبات، والتغلب على كل العقبات التي قد تواجه الإنسان الطموح في طلب العلم والمعرفة. نبارك له هذا الإنجاز والتميّز، ونسأل الله له رفعة الشأن في الدنيا والآخرة، وأن يزيده تألقا ورقيا في درجات العلم وأن ينفع به البلاد والعباد.“ انتهى كلام الدكتور علي.
وختاما أقول: لقد نال د. أسامة أرفع الأوسمة وأعلاها في حياته الخاصة والعامة، وسام شهادة الدكتوراه، وقبل ذلك وسام سمو الروح، ووسام علو الدرجة الإيمانية التي توجها سلوكا عمليا في حياته، ووسام علو الأخلاق، ولين الجانب، ووسام المحبة العالية له في قلوب الناس، يشهد بذلك التشييع المهيب الذي حظي به حيث غصت المقبرة بأعداد كبيرة مشاركين في تشييعه، والحزن يغمر قلوب كل الحضور، كما يكشف عن سمو روحه كلمات التأبين خلال وسائل التواصل المختلفة، منذ أن أُعلن رحيله إلى عالم الخلود.
رحم الله الفقيد أسامة رحمة الأبرار، وحشره في جوار محمد وأهل بيته الأطهار وأصحابه الأخيار، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعلي في الجنان العالية منزلته.