”انفَع نفسك“ والفلسفة المغلوطة
المسك:
- ومن الأحاديث التي كنت أسمعها في المجالس قديماً، أيام المراحل الدراسية الأولية ما يردده البعض، ”ما يفيدك إلا نفسك“، وعبارة ”انفع نفسك“، وعبارة ”ترى الكِلْ يقول نفسي نفسي“، إلخ، وهذا يعني أن أهتم بتكوين ذاتي لأعتمد عليها في معيشتي بالأيام القادمة دون أن أتّكل إلى أحدٍ إلا توكّلي على الله سبحانه وتعالى، ومن ثم سعيي في الحياة بالجدّ والاجتهاد في الدراسة ومن ثم العمل الوظيفي والكسب، وهذا الكلام كلّه صحيح إذا حُمل على هذا المعنى، ولكنه غير صحيح إذا حمل على معانٍ أخرى مناقضة كأن نشرح كلمة «ما يفيدك إلا نفسك» أي أنك لن تحصل على أي فائدة من شخص آخر وهذا كلام غير صحيح حيث إن الإنسان اجتماعي بطبعه، كما قال علماء الاجتماع، وسبقهم في ذلك ما قالته الشريعة السمحاء وهي ديننا الإسلامي العظيم، وقد فسر هذا المعنى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عندما قال:
”اللهم لا تجعل في حاجة إلى أحدٍ من شرار خلقك، وما جعلت بي من حاجة فاجعلها إلى أحسنهم وجهًا، وأسخاهم بها نفسًا، وأطلقهم بها لسانًا، وأقلّهم عليَّ بها منًّا“.
وكذلك ما روي عن الإمام علي بن الحسين السجاد ، لمن قال بحضرته:
"اللهم أغنني عن خلقِك.
فقال: ليس هكذا إنما الناس بالناس، ولكن قل: اللهم أغنني عن شِرار خلقك".
وفي هذا المضمار تحضرني مقولة جميلة لمارك توين حيث قال: ”إن وجدتَ من يُسعدكَ اليوم، فلا تنسى من اهتمَّ بك بالأمس“.
فالإنسان لا يمكن أن يتنكّر لمن أدخل على قلبه السعادة والسرور في حياته الحاضرة، سواء من أفراد عائلته وأقاربه، أو من أصدقائه وزملائه وجيرانه، ومن يتعامل معهم في خضم هذه الحياة الاجتماعية، كما لا يمكن لهذا الشخص أن ينسى من اهتمَّ به في السنوات الماضية بل الأشهر التي ولّت، بل الأيام التي انقضت، فكل من اهتمَّ به وتعامل معه بالحُسنى وبما ترتضيه الأخلاق والآداب الإنسانية الرفيعة فإن هذا الشخص لن ينسى هؤلاء أبدًا، وستظل الصورة الجميلة في ذهنه عن هؤلاء كلهم دون استثناء، لأن النفس البشرية النظيفة جُبلت على ذلك، وكذلك الفطرة الصافية لا يمكنها أن تمسح هؤلاء من ذاكرتها العميقة.
ومن خلال ذكرياتي تستوقفني العديد من المواقف في هذا المضمار، ففي الماضي لا أنسى أي شخص من عائلتي أو أقربائي أو جيراني أو أصدقائي أو زملائي ممن قدم لي أي شيء يقصد بذلك التعاون معي أو مساعدتي أو تشجيعي على الدراسة والجدّ والاجتهاد في التحصيل العلمي، كما لا أنسى كلّ أولئك وأمثالهم في الوقت الحاضر إذا وقفوا معي وقاموا بتلك الأدوار الجميلة من كلمة طيبة أو نصيحة أو إرشاد أو مؤازرة في مضمار أعمالي بعد تقاعدي من العمل الوظيفي حيث ممارسة الكتابة الأدبية من شعر ومقالة وقصة ونقد وخواطر وتأملات، أو ممارسة إدارتي لنادي عرش البيان الأدبي لهواية الأدب، مع زملائي الأدباء والشعراء الأعضاء في هذا النادي، وما نقوم به من أنشطة أدبية وثقافية كالأمسيات واللقاءات وورش التدريب في اللغة والبلاغة ونظم الشعر والعروض وما إلى ذلك.
وقد قرأتُ في وجوه العديد من شخوص الماضي منذ صغري، كيف اهتموا بأنفسهم وجدُّوا واجتهدوا حتى كوّنوا لهم مستقبلاً زاهراً، ولكنهم - بكلّ صراحة - تنكروا لكل من قدم لهم معروفاً في الماضي، كما لا زالوا يتنكرون لكل من يقدم لهم معروفًا حتى في حاضرهم، لأنهم باختصار تقوقعوا في نرجسياتهم البغيضة، ولا ينظرون إلا لمصالحهم الشخصية، وهذا ما كرهته فيهم، بل أكرهه في كل أحد، لأن هذا الخُلق ينافي الأخلاق والآداب الإنسانية، بل ينافي الفطرة السليمة.
هذا كلّه تعلمته من والِديَّ أولاً، ومن المعلمين الذين استفدت منهم الكثير في مراحل التكوين الأولي منذ الأول الابتدائي حتى المرحلة الثانوية وما بعدها أيضًا.
الروائياتي:
• صحيحٌ ما ذكرته أيها «المسك»، فالذين ينصحون الآخرين بجملة «ما يفيدك إلا نفسك» و«انفع نفسك» وما أشبه بهذه الجُمل والعبارات، وفيها ما فيها من الإيجابية من جهة، والسلبية من جهة أخرى.. كما هو واضح من المفهوم من هذه العبارات في الثقافة الاجتماعية والوسط الشعبي بشكل عام، وهذه الثقافة لدى هؤلاء في الواقع لها مثيلاتها في عوالم السرد الروائي والقصصي والمسرحي، ليس لدى قومية معينة بل لدى جميع الشعوب، وتأتي هذه الثقافة بألوان مختلفة وأساليب عدة، وهذه العبارات تحمل بعداً مزدوجاً يتراوح بين التحفيز الفردي والتنصل من المسؤولية الاجتماعية، وفي سياق النصوص السردية الإنسانية، تظهر هذه الأفكار غالباً كبنية فلسفية أو موقف اجتماعي يعكس عزلة الإنسان أو تركيزه المفرط على مصلحته الشخصية، ومن أمثلة ذلك في الرواية العربية ما جاء في «اللص والكلاب» لـ ”نجيب محفوظ“، حيث يعكس من خلال شخصية ”سعيد مهران“ مدى انعزال الفرد في مجتمع يخذله، حيث يتخلى الجميع عنه، من أصدقائه إلى زوجته، وهنا تتجلى فكرة ”ما يفيدك إلا نفسك“ بشكل سلبي، إذ تؤدي العزلة إلى الفقدان الأخلاقي والانحدار نحو الانتقام
وفي «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف يُظهر منيف كيف تُترجم الفردية في مجتمعات النفط الحديثة إلى صراعات شخصية واجتماعية، حيث تتفكك الروابط بين الأفراد لصالح المصالح المادية، والعبارة ”انفع نفسك“ تتجلى هنا كرمز للأنانية الاقتصادية بشكل جليّ.
أما في الرواية الروسية، فنقرأ» الإخوة كارامازوف «ل فيودور دوستويفسكي الذي يطرح مفهوم المسؤولية الفردية والجماعية على لسان إيفان كارامازوف، والذي يُظهر فلسفة قريبة من ”ما يفيدك إلا نفسك“، حيث يتنصل من فكرة المسؤولية الأخلاقية الجماعية، ما يقوده إلى صراع داخلي يدمر سلامَه النفسي.
وإذا أتينا إلى رواية «الغريب» لـ ”ألبير كامو“ نلاحظ أنه يقدم شخصية ”ميرسو“ التي تجسد العبثية واللامبالاة، وما يقدمه ما هو إلا فلسفة عبارة ”ما يفيدك إلا نفسك“ حيث تظهر في رفض ميرسو للارتباط العاطفي أو المجتمعي، ما يعكس اغتراب الإنسان الحديث عن ذاته ومحيطه.
أما في المسرح فنقرأ «في انتظار غودو» لـ ”صمويل بيكيت“ حيث يُظهر بيكيت في هذا العمل العبثي كيف يصبح انتظار الآخرين أمراً عبثياً بلا جدوى، ويمكننا أن نفهم الرسالة الضمنية كدعوة إلى الاعتماد على الذات وهي: «ما يفيدك إلا نفسك»، لكن في إطار سوداوي يعكس ضياع المعنى.
أما في «بيت الدمية» لـ ”هنريك إبسن“ تعكس شخصية ”نورا“ في نهاية المسرحية شعوراً قوياً بضرورة التحرر الفردي، حيث تتخلى عن الأسرة لتبحث عن ذاتها. وهنا تتجلى العبارة ”انفع نفسك“ كحاجة للتحرّر من قيود المجتمع، لكن بثمن نفسي واجتماعي باهظ.
أما في الأدب الآسيوي، فنقرأ» كافكا على الشاطئ» لـ ”هاروكي موراكامي“، وفي هذه الرواية، يعيش أبطال موراكامي في عزلة نفسية شديدة، ويبحثون عن ذواتهم في عالم غريب ومعقد، وعبارة ”ما يفيدك إلا نفسك“ تتقاطع مع رحلة الشخصيات في محاولة لفهم مصيرهم الفردي، لكن العزلة تتركهم أكثر ضياعاً، وكذلك في المجموعة القصصية» رجال بلا نساء» لـ ”هاروكي موراكامي“ أيضًا تعكس حالة من الوحدة والعزلة، حيث الشخصيات تعيش تجاربها في فراغ عاطفي، وهنا جملة ”انفع نفسك“ تصبح رسالة حزينة عن الاستقلالية القسرية.
أما في الأدب الأفريقي، فنقرأ في رواية «أشياء تتداعى» لـ ”تشينوا أتشيبي“ في سياق التحولات الاجتماعية التي تشهدها القبيلة الأفريقية، يواجه ”أوكونكو“ صراعاً بين القيم الجماعية القديمة والفردية الحديثة، وفكرة ”ما يفيدك إلا نفسك“ تظهر بشكل مأساوي في انحلال الروابط الاجتماعية لصالح المصالح الفردية.
وخلاصة القول عن هذه الفلسفة المغلوطة تبرز هذه العبارة ومثيلاتها في الأدب الإنساني - بأيّ قوميةٍ كانت - كتعليقٍ على الفلسفات الفردية التي تفصل الإنسان عن محيطه، وتظهر غالباً كأداة نقدية للمجتمعات التي تدفع الناس إلى الانعزال أو الأنانية، مما ينعكس سلباً على العلاقات الإنسانية ويؤدي إلى العزلة، والصراعات، أو الانهيار النفسي.